الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/04/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: دلالة صيغة الأمر
-هل يمكن تقسيم الأحكام إلى أكثر من خمسة؟ 
  نكمل الإضاءة على التعبير عن كثير من المستحبات بما يوحي بانه لا يجوز تركها من خلال تعبيراتهم، وهل هي قسم سادس أو لا؟. ذكرنا أن بعضهم نتيجة هذه التعبيرات أراد ان يجعل الاحكام إما واجب أو حرام أو إما أمر أو نهي. وبعضهم قال انها أربعة. وهذه الروايات التي ذكرناها والتي تدل على التشديد قد تحمل على الاستحباب الأكيد بقرينة الروايات التي تقول بجواز الترك، وقد تحمل على عنوان آخر كالحمل على العنوان الثانوي الذي يجعلها واجبة رغم انها مستحبة، ونعلم أن العناوين الثانوية تؤدي إلى تغير الاحكام، نعم هذا ممكن لكنه يحتاج إلى دليل، لأن هذا التقدير للعنوان الثانوي خلاف الظاهر لأن نفس الصيغ موجودة ونفس التركيب اللفظي يتكرر كـ " لا صلاة " " لا علم الا بعمل " أي " لا " النافية للجنس مع استثناء.
 هذه الإضاءة على أمر سميناه السنة او القسم السادس ونريد أن نصل إلى نتيجة في هذا الامر، الواجب قسمناه إلى قسمين أو نفس المستحب قسمناه أيضا، القسم الذي يجوز تركه سميناه فريضة والقسم الذي لا يجوز تركه سميناه سنّة.
 قد يقال انه ليس قسما سادسا، لأنه هو نفس الواجب او المستحب وقسمناه إلى قسمين. نقول: هذا ليس من تقسيمات الواجب كما قسم إلى توصلي وتعبدي أو إلى نفسي وغيري أو تعيني وتعييني، أو تقسيما بلحاظ المتعلق كالبدلي والاستغراقي. لأن الكلام هنا في المقسم، أي أصل الالزام كما في جواز ترك المستحب، وليس في الأقسام والمتعلقات.
  توضيح: الفرق بين المقامين: أننا إذا قلنا إن المستحب هو الراجح مع جواز الترك، ثم قسمناه إلى ما يجوز تركه وما لا يجوز، نكون قد قسمنا المقسم إلى نفسه وغيره لأن المقسم هو جواز الترك وأحد القسمين الإلزام. وهذا بخلاف تقسيمات الوجوب والمستحب، كالتقسيم إلى التعبدي والتوصلي فهو تقسيم إلى قسمين ولا إشكال فيه، لأن المقسم هو الإلزام والقسمين كلاهما إلزامي إلا أن أحدهما يشترط فيه قصد القربة والآخر لا يشترط فيه ذلك.     
  والذي اقصده من هذه الإضاءة انه كيف نستطيع تفسير الروايات الواردة بجعل بعض المستحبات أو المكروهات في ضمن الواجبات بسرد واحد وفي سياق واحد ومع الواجبات والمحرمات، وكيف نستطيع أن نفسر التهديد على ترك بعض المستحبات، ثم كيف نستطيع أن نميّز بين ما لا يجوز عمّا يجوز تركه؟. 
نكمل بعض الروايات: ذكرنا الرواية السادسة ونكمل:
 الرواية معتبرة ح 7 - وفي (المجالس) عن الحسين بن إبراهيم بن ناتانه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام (في حديث) قال: من ترك الجماعة رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علة فلا صلاة له. ورواه البرقي في (المحاسن) عن زرارة مثله. [1]
 في الرواية دخل عنوان جديد وهو الرغبة عن الجماعة أي الاعراض، هذا التفسير هو الذي توقف عنده الفقهاء، لذا سنجد في بعض التفاسير: الرغبة عن السنّة هو المحرم شرعا، أي ان هذا الثواب لا يريده.    
ح 8 - وفي (العلل) عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن ذبيان بن حكيم، عن موسى النميري، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما جعلت الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع ولولا ذلك لم يمكن أحدا أن يشهد على أحد بالصلاح، لان من لم يصل في جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين إلا من علة.
الرواية معللة، فإذا وجدت العلّة وجد المعلول، وإذا انتفت انتفى المعلول. العلّة كما توسع أيضا تضيق، وأيضا فإن الظهور هو في العلّة المخصصة وعليه فإذا عرف المصلي من غير المصلي ينتفي جعل صلاة الجماعة وبقية العلل. ومحل الشاهد هو التشديد في آخر الرواية فإن ظاهره ينفي أصل ماهية الصلاة، ويلزمها العموم والتأويلات هي التي تحتاج إلى الدليل.      
 الرواية معتبرة:ح 9 - محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب بهذا الاسناد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هم رسول الله صلى الله عليه وآله بإحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون في منازلهم ولا يصلون الجماعة، فأتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: شد من منزلك إلى المسجد حبل واحضر الجماعة.
 قد يقال هنا بالاستحباب المؤكد، ولكنه لا يتناسب مع التعبير باحراق القوم. 
الرواية معتبرة ح 10 - وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن أناسا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.
ح 11 - أحمد بن محمد البرقي في (المحاسن) عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الايمان من عنقه.
ح 12 - وعن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من سمع النداء من جيران المسجد فلم يجب فلا صلاة له.[2]
 هذه التعبيرات هي التي أدت عند الفقهاء ان يكون موضوع التحريم هو الرغبة، الذي يعني ان الرغبة عن الثواب هو المحرّم وليس ترك الأفعال.
ح4 - محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن الحسين (الحسن) بن علي بن يقطين، عن محمد بن الفضيل الكوفي، عن سعد أبي عمرو الجلاب قال: قلت لأبي عبد الله (ع) ركعتي الفجر تفوتني أفأصليها؟ قال: نعم. قلت: لمِ َفريضة؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله سنها، فما سن رسول الله فهو فرض. [3]
 الكلام عن النافلة الركعتين المستحبتين. لذا قال بعض الاخوان بان ما سنه رسول الله أصبح فريضة فهو سنة وواجب.
ح 8 - وعن زريق، عن أبي عبد الله (ع) قال: شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله إليها وعزتي وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة، ولا أظهرن لهم في الناس عدالة، ولا نالتهم رحمتي، ولا جاوروني في جنتي. [4]
إذا اخذنا بظاهر اللفظ " لا قبلت لهم " هنا شرط قبول وليس شرط صحة.
ح1 - العلامة الكراجكي في كنز الفوائد: عن محمد بن أحمد بن شاذان، عن أبيه، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن الصفار، عن محمد بن زياد، عن المفضل بن عمر، عن يونس بن يعقوب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " ملعون ملعون من لم يوقر المسجد. [5]
 قد يقال التوقير أعم من الصلاة فيه.
 في الموثق: ح 2 محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لا بد للمريض أن يؤذن ويقيم إذا أراد الصلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلم به. سئل فإن كان شديد الوجع ؟ قال لا بد من أن يؤذن ويقيم لأنه لا صلاة إلا بأذان وإقامة. ورواه الصدوق في (العلل) عن أبيه عن سعد عن أحمد بن الحسن. [6]
 هنا أيضا " لابد له " رغم أن الاذان والإقامة مستحبة. ورغم أن له عذرا وهو شدة الوجع.
أيضا نقرأ كلمات بعض الفقهاء:
يقول المحقق الحلي في الشرايع: { ولا يقدح في العدالة ترك المندوبات ولو أصر مضربا عن الجميع ما لم يبلغ حدّا يؤذن بالتهاون في السنن }.[7]وعنوان ورد كثيرا في الروايات، ولكن هل كل مستحب سنّة؟ فما هو المراد من السنن عنده. وإذا كان كل مستحب سنّة فهل ترك بعض الأدعية الواردة لمجرد الترك لا استخفافا يعتبر تهاونا عنده؟ أم أنا هناك باب جديد نميز به بين سنة لا يجوز تركها، وأن مجرد تركها يعتبر استهانة بها، وبين سنة يجوز تركها والاعراض عنها.
  الشهيد الثاني في المسالك: { ترك المندوبات لا يقدح في التقوى ولا يؤثر في العدالة إلا أن يتركها أجمع فيقدح فيها، لدلالته على قلّة المبالاة بالدين والاهتمام بكمالات الشرع، ولو اعتاد ترك صنف منها كالجماعة والنوافل ونحو ذلك فكترك الجميع لاشتراكهما في العلّة المقتضية لذلك، نعم لو، نعم لو تركها أحيانا لم يضر }. [8]
 والذي أشعره إن ترك المندوبات أجمع تدل على قلة المبالاة بالثواب وليس بالدين، وأيضا نشكل هل ترك الدعاء الخاص هو كترك الجميع.       
السبزواري بعد نقل عبارة الشهيد: { من غير نقل خلاف في ذلك، ولا ريب فيه في الجماعة لدلالة النص السابق وغيره من الاخبار المتعددة }. [9]
  السيد اليزدي في العروة الوثقى في صلاة الجمعة: {ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافا بها }.[10]
السيد الخوئي (ره) تعليقا على اخبار ترك الجماعة من غير علّة: { بل قد يظهر من مثل هذه الصحيحة وسابقاتها مما تضمن نفي الصلاة عمن لم يُجب من غير علّة أو الذم والوعيد لمن لم يحضر الجماعة، كراهة الترك من غير عذر لاسيما مع الاستمرار عليه، ما لم يكن رغبة عن فضلها الضروري، أو استحقارا أو استخفافا بشأنها وإلا فلا اشكال في عدم الجواز بهذا العنوان، كما أشار إليه في المتن }.
ذكرنا في الأصول ان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده أي ان الامر بصلاة الجماعة لا يقتضي النهي الضده العام أو الخاص إلا أن يقوم دليل على ذلك كما كان ظاهر النصوص.
ويظهر من بعض الفقهاء أن التهاون والاستخفاف هو على حد الكفر.
  الاردبيلي في بحث الجماعة: وأن المراد بـ " من تركها رغبة " اعراضا وكراهة، فهو بمنزلة الكفر نعوذ بالله منه.  
 قال صاحب الجواهر بعد نقل كلام الشهيد الثاني المتقدم: { ولكن الانصاف عدم خلوه من البحث إن لم يكن إجماعا، ضرورة عدم المعصية في ترك جميع المندوبات أو فعل جميع المكروهات من حيث الإذن فيهما فضلا عن ترك صنف منها ولو للتكاسل والتثاقل منه [11]، واحتمال كون المراد بالتهاون الاستخفاف فيه يدفعه أن ذلك من الكفر
والعصيان ولا يعبر عنه ببلوغ الترك حد التهاون، كما هو واضح، ووافقه الكولبايكاني في الشهادات }. [12]
  إلى هنا بعد استعراض الروايات وبعض كلام الفقهاء أتمنى ان تعيدوا النظر والتفكير هل يمكن ان نصل لنتيجة: ان هناك قسما سادسا؟ هل نؤيد كلام الفقهاء في خصوص الرغبة؟ ثم إذا لم نسلم بكلام الفقهاء هل هناك سنن لا يجوز تركها، وسنن يجوز تركها؟ وما المائز بينها؟ وكيف نستطيع ان نميّز؟  هذه الأبواب لها الثمرة الكبيرة في الفقه.


[1] وسائل الشيعة ( الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 5 - ص 376.

[2] وسائل الشيعة ( الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 5 - ص 377.
[3] وسائل الشيعة ( الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 3 - ص 77.
[4] وسائل الشيعة ( الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 3 - ص 479.
[5] مستدرك الوسائل - ميرزا حسين النوري الطبرسي - ج 3 - ص 435.
[6] وسائل الشيعة ( الإسلامية ) - الحر العاملي - ج 4 - ص 664.
[7] شرائع الإسلام – المحقق الحلي – ج 4 ص 912.
[8] مسالك الافهام – الشهيد الثاني – ج 14 ص 172.
[9] كفاية الاحكام – السبزواري - ج 2 ص 748.
[10] العروة الوثقى – السيد اليزدي – ج 3 ص 113.
[11] وهذا غير للاستخفاف الذي هو نوع من التوهين والانكار الداخلي. يقال ان بعضهم عندما سمع قول الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم فمن زحزح عن النار " وقبل ان يسمع " ادخل الجنّة " قال ان هذا يكفي. هذا الذي يريد الزحزحة عن النار ويكتفي بذلك ولا يريد مزيدا من الدرجات بفعل المستحبات، هل يكون كافرا وهو يطيع الله عز وجل؟! وأيضا كلام امير المؤمنين (ع) في مراتب العبادة. عبادة الله طمعا في الجنّة فهي عبادة التجار، ومن عبد الله خوفا من النار فهي عبادة العبيد، ومن عبد الله لأنه اهل للعبادة فهي عبادة الاحرار.           
[12] جواهر الكلام – الشيخ الجواهري – ج 41 ص 30.