الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/03/29

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: دلالة صيغة الأمر
     - دلالة الصيغة على الوجوب في حال الطلب الحقيقي.
- دلالة الصيغة في خصوص كلمات الشارع.
المبحث الثاني: في صيغة الأمر في حال كون الداعي الطلب الحقيقي هل هو حقيقة في الوجوب؟
   تحرير محل النزاع: في حال كون الداعي هو الطلب الحقيقي، وفي حال كون الآمر عاليا والمأمور دانيا، - أي طلب العالي من الداني -، فهل يدل على الوجوب؟
  يقول صاحب الكفاية (ره): { المبحث الثاني ( أي من مباحث صيغة الأمر) في أن الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما [1]، أو في المشترك بينهما؟ [2]وجوه بل أقوال، ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة [3]، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال}. [4]انتهى كلامه رفع مقامه.
 ولا بأس لمقدّمة قبل بيان كلامه ومناقشته:
  وللتذكير: الطلب على أنحاء فإذا كان من الداني إلى العالي كان دعاء، وإن كان من المساوي إلى المساوي كان التماسا، وإن كان من العالي إلى الداني كان أمرا وهو على ثلاثة أقسام: وجوب وندب وإباحة.
  أما الوجوب فهو بعث وجعل في ذمة المخاطب على نحو الإلزام بحيث يمنع العبد من المخالفة.[5]
  أما الندب فهو بعث وتحريك على نحو يجوز معه المخالفة، ولكن مع رجحان الفعل.
       وأما الإباحة فهي بعث وتحريك على نحو يجوز معه المخالفة ومع تساوي الطرفين: طرف الفعل وطرف الترك.

  وعليه: فإن قامت قرينة حالية أو مقالية على أحدها لزم الأخذ بها [6]، وإلا، فهل هي ظاهرة في الوجوب ويحتاج المعنيان الآخران إلى قرينة، أم في الندب ويحتاج الباقي إلى القرينة، أم في الجامع بينهما على نحو الاشتراك المعنوي، أم في الجامع بين الوجوب والندب كذلك، أم في كل منها على نحو الاشتراك اللفظي، أو هي موضوعة للوجوب والندب على نحو الاشتراك اللفظي؟ أو غير ذلك من الوجوه بل الأقوال؟
 اختار صاحب الكفاية (ره) القول بأن الصيغة حقيقية في الوجوب ومجاز في غيره، ولا مانع من التعبير بالوجوب بعد أن كانت الحروف عنده من الوضع العام والموضوع له عام [7].
  واستدلَّ على الدلالة على الوجوب بالتبادر، لأن المنسبق من الصيغة عرفا عند إطلاقها وتجردها عن كل قرينة هو الوجوب. والتبادر – وهو الانسباق المستند إلى نفس اللفظ بسبب الوضع – هو من علامات الوضع.
 ثم إن الندب والجامع المعنوي المشترك لم يتبادر منها، وهو علامة عدم الوضع لها، ولو كانت الصيغة موضوعة لكل منها على حدة – كمشترك لفظي - لتبادرت جميع المعاني الموضوع لها [8]، ولا ينبهم المعنى المراد، ولاحتاج الوجوب إلى قرينة معينة.
 نعود: قد يقال انه موضوع كمشترك لفظي بين الوجوب والندب، أو بين الوجوب والندب والاباحة، أو بين الوجوب والاباحة والندب والتهديد على ما قيل. ومعنى المشترك اللفظي انه موضوع لكل منها على حدة، وعند اطلاق اللفظ يتبادر المعاني الأربعة، إذن التبادر ليس مخصوصا بالموضوع له الواحد، نعم لو تعدد يحتاج إلى القرينة المعيّنة لرفع الابهام وليس للتخصيص [9].
  ثم أيدّ هذا الرأي بقيام السيرة العقلائية على ذمّ العبد إذا خالف المولى وعصى طلبه، وعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم ما يدل على الندب من حال أو مقال.
  وإنما اعتبر صاحب الكفاية (ره) ذمّ العقلاء تأييدا وليس دليلا، وذلك لأن هذا الذم وصحة العقوبة وإن كانت لازما مساويا للظهور في الوجوب، إلا أنها لازم أعم [10]، وذلك الظهور قد يكون سببه الوضع، وقد يكون سببه العقل، وقد يكون سببه العرف الذي يحمل اللفظ على الفرد الأكمل، وقد يكون سببه سيرة عقلائية. ومع جميع هذه الاحتمالات لا نعلم ان سبب انسباق الوجوب هو الاستناد إلى نفس اللفظ كي يكون من التبادر الذي هو علامة الحقيقة، إذ قد يكون الإنسباق مستندا إلى بعض هذه الاحتمالات.
 ولنأخذ بالمناقشة:
  إننا نسلم كون الصيغة إذا كانت في مقام الطلب الحقيقي وإذا كانت من العالي إلى الداني ظاهرة في الإلزام وجعل الفعل في ذمة المخاطب، إلا اننا لا نسلم بكون ذلك بسبب الوضع، بل نقول إن الدلالة على الوجوب هي بسبب حكم العقلاء بذلك.
  وبيان ذلك غدا أن شاء الله.


[1] حقيقة في الاثنين على نحو المشترك المعنوي، أي الكلي الجامع بينهما وهو الطلب مع الرجحان. .
[2]  هو المشترك اللفظي. عندما يكون اللفظ موضوع لأكثر من معنى، كل وضع على حدة.  .
[3] دليله الأول هو التبادر، ومؤيد للدليل احتمال الاستحباب بقرينة حالية او مقالية. .
[4] كفاية الأصول - الآخوند الخراساني - ص 70.  الؤيد هو الذي لا يصل إلى مرحلة الدليلية لإمكان نقصه، ولكنه يقوّي الدليل. .
[5] ذكرنا هذا التعريف لأنه عند القدماء الوجوب مركب من امرين: الطلب مع المنع من الترك. نقول: ان الوجوب أمر بسيط يلزمه المنع من الترك وليس الترك جزء من المعنى. وكذلك الندب امر بسيط.    .
[6]  توضيح:. عندما يقال انصراف إلى بعض الافراد، يقولون انه انصراف او قرينة من " حاق اللفظ " ما هو معنى حاق الفظ؟ قيل انه من نفس اللفظ. هنا نسأل: إذا كان اللفظ بما هو لفظ لماذا يتصرف إلى بعض الافراد، فإذا كان المعنى مستندا إلى نفس اللفظ لكان تبادر. فكلمت " حاق " تعني أحاط بإحاطة كاملة، فيكون معنى " حاق اللفظ " اللفظ المستند إلى قرينة تحيط به، فلا يكون المعنى انه من نفس اللفظ. فالاستناد إلى حاق اللفظ يكون استناد إلى اللفظ محاطا بقرينة مستمرة معه، هذه القرينة تؤدي إلى انصراف إلى بعض الافراد، ومع عدم وجود القرينة يكون هناك تبادر. لذلك هنا نبحث هذه المطالب: الامر بعد الحظر، الطلب من العالي إلى الداني، هذه الحالة المعينة وبهذه القرينة الخاصة، ما هي دلالة هذا الامر؟        
[7] إشارة: الوجوب والطلب معنى اسمي، كيف تدل الصيغة على معنى اسمي وهي من المعاني الحرفية؟ هو(ره) لم يفرق بين بينهما بقوله: بان الوضع عام والموضوع له عام في الحروف، فلا فرق بين معنى الحرف ومعنى الاسم إلا بقصد الآلية أو الاستقلالية وهما من مقدّمات الاستعمال لا الموضوع له ولا المستعمل فيه.
[8] هنا يمكن التبادر لأحد المعنيين لكن على نحو مبهم واحتاج إلى قرينة معينة، ولا يخرج عن كونه موضوعا له. توضيح:. الموضوع له هو المعنى الحقيقي عند الاستعمال فتارة يكون واحدا وتارة يكون متعددا، والتبادر علامة للحالتين. ولكن يوجد فرق بينهما. عندما أقول: جاء زيد. هذا يشمل كل زيد. فإذا كان الموضوع له واحدا يكون هو نفس المعنى. أما إذا تعدد الموضوع له تأتي كل المعاني في الذهن، ومصدر التبادر في كليهما هو الوضع، وبعد التبادر في المتعدد يكون الامر مبهما وليس نكرة، وإذا احتاج إلى حال يكون منصوبا فأقول: " جاء زيدٌ راكبا " صاحب الحال هنا معرفة رغم تعدد المسمّى بزيد، وبهذا يكون " زيد " معرفة لأنه موضوع له بعينه، ومبهما لأن المسمى متعدد. هذا الابهام احتاج لرفعه إلى قرينة معيّنة، وبهذا تختلف القرينة المعيّنة عن القرينة المجازية لأنها قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي.           
[9] الفرق بين التخصيص والتعيين. التخصيص يكون للنكرات مثلا: جاء رجل تاجرٌ. رجل نكرة عام اخصصه. بينما في التعيّن يكون مبهما مثلا: جاء زيد، زيد معرفة وقد تعدد فأعينه بصفة خاصة فأقول: جاء زيد التاجر.    .
[10] اعتبره مؤيدا وليس دليلا. لأنه ليس دليلا على الوضع مع انه دليل على الوجوب. فسيرة العقلاء لا تدل على الوضع بل تدل على وجود الظهور بالوجوب دون تحديد منشأ هذا الظهور، هل هو حكم العقل أم حكم العقلاء أم سرتهم. أتصور ان التأييد من جهة ان الوجوب هو للوضع لا لأصل الدلالة على الوجوب.   .