الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/03/05

بسم الله الرحمن الرحیم

   العنوان: الأوامر
   المختار في صيغة الأمر:
  الرحمة على ارواح الشهداء ودفع الله البلاء عن المؤمنين والطيبين في كل الدنيا.
  كان المختار ملخصا في مادة الامر بان المادة موضوعة للوجوب، وميّزنا نحن ومن كان قبلنا من الاساطين بين المادة والصيغة، واليوم نعرِّج على ما ذكره السيد الخوئي (ره) خلافا للمشهور، وهو أن النسبة الانشائية عبّر عنها بالنسبة الابرازيّة، ابراز ما في النفس، والمشهور وما نؤيده أن النسبة الانشائية هي نسب إيجادية، فقبل الانشاء لا يوجد شيء، بل لا يوجد في افق النفس شيء من الطلب والانشاء، وذكرنا أن الموجود في افق النفس هو الدواعي، فوجود الرغبة والشوق الشديد يدفع بي إلى الطلب الموجود في افق النفس ليس طلبا نفسيا وليس ترجيا ولا تمنيا ولا تحضيضا ولا استفهاما ولا عقدا ولا ايقاعا، هذه الانشاءات جميعا ليست موجودة في افق النفس ثم اعبر عنها وابرزها إلى الواقع باللفظ، بل الموجود في افق النفس الدواعي والدوافع التي تدعوني لإنشاء الطلب، فليس هناك كلاما نفسيا على ما ذهب اليه الاشاعرة.    
   ولا بأس بذكر كلام للسيد الخوئي (ره) من كتاب المحاضرات: { وأما الجمل الإنشائية: فقد سبق الكلام فيها بشكل مفصل، وقلنا هناك: إن نظريتنا فيها تختلف عن نظرية المشهور، حيث إن المشهور قد فسروا الإنشاء بإيجاد المعنى باللفظ. ولكن قد حققنا هناك: أنا لا نعقل لذلك معنى صحيحا معقولا، والسبب في ذلك: هو أنهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كإيجاد الجوهر والعرض فبطلانه من البديهيات التي لا تقبل الشك [1]، ضرورة أن الموجودات الخارجية - بشتى أشكالها وأنواعها - ليست مما توجد بالألفاظ. كيف والألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها؟
 وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك.[2]

 فيرده: أنه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلم به [3]، ضرورة أن اللفظ في
الجملة الإنشائية لا يكون علّة لإيجاد الأمر الاعتباري، ولا واقعا في سلسلة علله، لوضوح أنه يتحقق بنفس اعتبار المعتبر في أفق النفس، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.[4]
 ودعوى: أن مرادهم بذلك الإيجاد التنزيلي ببيان أن وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه تنزيلا [5]- ومن هنا يسري إليه قبح المعنى وحسنه [6]، وعلى هذا صح أن يفسروا الإنشاء بإيجاد المعنى - خاطئة جدا، وذلك لأن تمامية هذه الدعوى ترتكز على نظرية من يرى كون الوضع عبارة عن الهوهوية، وجعل وجود اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى.
 ولكن قد ذكرنا في محله: أن هذه النظرية باطلة، وقلنا هناك: إن حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني، وعليه فلا اتحاد بينهما، لا حقيقة وواقعا، ولا عناية ومجازا، ليكون وجود اللفظ وجودا تنزيليا له.
 وأما مسألة سراية القبح والحسن فهي لا ترتكز على النظرية المزبورة، بل هي من ناحية كون اللفظ كاشفا عنه ودالا عليه، ومن الطبيعي أنه يكفي لذلك وجود العلاقة الكاشفية بينهما [7]، ولا فرق في وجود هذه العلاقة بين نظرية دون أخرى في مسألة الوضع }. [8]
  ونقول: ان هذا الكلام خلاف كلام المشهور الذي يقول بأن وجود اللفظ وجود ايجادي وليس ابرازيا.
 اولا: ان هذا مرتكز على مسألة الهوهوية وهو يرفضها.
 ثانيا: أن هناك في افق النفس اعتبار نفساني واللفظ مبرز له، وليس هناك وجودا تنزيليا.
 ثالثا: ان الدليل على الوجود التنزيلي هو السراية ويكفي فيها الكاشفية.
  نجيب اولا: إن الوضع امر عقلائي هو مقدمة للاستعمال وإن المستعمل فيه هو الوجود التنزيلي، والاستعمال هو الإيجاد التنزيلي، والداعي للوضع هو الحاجة إلى التعبير، وقد ذكرنا سابقا أن الاصل في القضايا أن تكون خارجية،
بمعنى وجود الموضوعات والمحمولات خارجا، وهذا أمر شبه محال غالبا، فكان لا بد من الوضع.[9]
  وثانيا: أما التعهد فهو صحيح لكنه في بعض أنحاء الوضع، وإلا فما نقول في الوضع التعيني؟
 وقلنا سابقا أن ما ذكروه وفي نظرية القرن الأكيد - السيد الشهيد محمد باقر الصدر-، أو نحو اختصاص وغيرها هذه اساب للوضع وكلها صحيحة ولكن إما غير جامعة وإما غير مانعة. فالتعهد لا يعتبر أمرا جامعا  لكل اسباب الوضع. 
   ونظرية القرن الأكيد قد أشكلنا عليها بعدم منع الأغيار. فليس كل اقتران بين لفظ ومعنى هو وضع.
   لكنا نقول: صحيح لكن ليس الدليل على الوجود التنزيلي هو انتقال الحسن والقبح وسرايته من المعنى إلى اللفظ، ولو كان كذلك لكان ما ذكره (قده) تاما، لكن دليلنا هو أصل الحاجة للوضع. وانتقال الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ بسبب العلاقة كما قال (قده). ويكفي في ذلك أية علاقة سواء كانت الهوهوية والوجود التنزيلي أو الكاشفية أو غير ذلك مما قد يتصور.    
 والذي نراه أن كل ما ذكروه صحيح لكنها دواع للوضع، لان الوضع هو العلاقة بينهما بحيث لو استعملته لوجد المعنى تنزيلا، وعبر في الكفاية عن ذلك بانه نحو اختصاص، لكن لم نفهم منها شيء.
  أما ما ذكره من: { ضرورة أن اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علّة لإيجاد الأمر الاعتباري، ولا واقعا في سلسلة علته، لوضوح أنه يتحقق بنفس اعتبار في سلسلة علته، لوضوح أنه يتحقق بنفس اعتبار المعتبر في أفق النفس، سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن }.
  هنا نقول: انه في افق النفس ليس هناك وجوب، بل هناك داع لإيجاب ورغبة، ثم لا يكفي بالعلم بان في افق النفس رغبة يصبح واجبا. يجب وجود انشاء، نعم لا يجب ان يكون بلفظ كما ذكرنا سابقا بأن الانشاء يتم باللفظ وبالاشارة والكتابة أو الإمضاء كما في عقود البيع والشراء عند كاتب العدل. نعم الانشاء ليس محصورا باللفظ، لكن لا بد من أن يكون انشاء. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [10] لذا في الرواية ان هناك وجوبات انشائية، رواية عن سماعة ان سأل النبي (ص) عن آية: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾  [11] قال في كل عام يا رسول الله، سكت رسول الله (ص)، وسأل في المرة الثانية ايضا سكت رسول الله (ص) وسأل ثالثا، قال رسول الله (ص) ما معناه: وما ادراك أن اقول في كل عام، فيجب عليكم في كل عام وانتم لا تستطيعون ذلك.
 لذلك قد يكون هناك وجوب لم يصل إلى مرحلة الفعلية لم يكن هناك انشاء فعلي فلا يكون واجبا على المكلف، وهناك روايات تشير إلى ذلك. لو علمت أن هناك وجوبا، فمجرد وجود المصلحة لا يكون هناك وجوب، بل هو اقتضاء للوجوب. قبل الانشاء لا وجوب في عالم الثبوت. والانشاء لا يشترط ان يكون بلفظ يمكن ان يكون بفعل أو                        
 اشارة او كتابة إلى آخره كما ذكرنا.
  وثالثا: قوله (ره): {وأما مسألة سراية القبح والحسن فهي لا تتركز على النظرية المزبورة، بل هي من ناحية كون اللفظ كاشفا عنه ودالا عليه،ومن الطبيعي أنه يكفي لذلك وجود العلاقة الكاشفة بينهما }.
 الحسن والقبح من الآثار وليس من الادلة حتى صار المعنى هو نفس اللفظ، وذكرنا سابقا انه عندما نتكلم لا نلتفت للألفاظ كليا، بل المعاني تأتي في الذهن مباشرة دون الالتفات للفظ، هذا يعني ان هناك هوهوية لكنها اعتبارية تنزيلية وليست حقيقية، وكل الادلة في اتجاه ذلك.    
واخيرا نقول: ان السبب الذي دفعنا إلى القول بالوجود التنزيلي هو الداعي للوضع، الوضع أمر عقلائي يحتاج الناس اليه هو الذي جعلنا نقول بالوجود التنزيلي عند الاستعمال وليس هو كل ما ذكروه، بل هي آثار يستدل بها بنحو الإن على ذلك، وأن دليلنا ان الحاجة هي الدافع للوضع، لذلك نقول أن الوضع هو الامر الذي احتاجه العقلاء للتعبير عن مراداتهم فجعلوا علاقه بين اللفظ والمعنى بحيث لو استعملته كان الاستعمال إيجادا تنزيليا للمعنى، والمستعمل فيه وجودا تنزيليا للمعنى، وهذا ما نقصده من المعنى الاعتباري والوجود التنزيلي.







[1]  عندما اقول مثلا " زيد " لا يحضر " زيدُ" قطعا،  فلا توجد المعاني باللفظ بالوجود التكويني.
[2] من انواع الانشاء، الطلب بأنواعه: الاستفهام، والترجي،والتمني،والحث، والوجوب، والاستحباب، ثم العقود، والإيقاعات وكل انواع الطلب.       .
[3] هنا يكفي العلم باعتبار الوجوب النفساني حتى يجب عليّ الانقياد، ولو كان بالإشارة أو قرينة حالية أو حتى بواسطة منام أو غير ذلك، وليس بحاجة للتلفظ.    .
[4] هذا الكلام مهم وينفعنا فيما ذهبنا اليه في صحة عقود المعاطاة حتى عقد النكاح.
[5]  كما ذهب اليه المحقق النائيني (ره). وقلنا سابقا أن الاوضاع لو استعملتها لاوجدت معانيها تنزيلا واعتبارا مثلا " زيد " في الخارج اعبر عن وجوده باللفظ.
[6] اصلا اللفظ لا حسن ولا قبيح، بل المعاني هي التي توصف بالحسن والقبح، مثلا: لفظ " الامن " سابقا في العراق ايام العهد الظالم، هو لفظ حسن ولكن لما اقترنت بمعنى قبيح وهو المخابرات والظلم والخوف سرَى اليها القبح.     
[7] ليست علاقة تنزيلية بل هي علاقة كشف. .
[8]  محاضرات في أصول الفقه - تقرير بحث الخوئي، للفياض - ج 2 - ص 22.
[9] ذكرنا هذا المطلب سابقا في الكفاية وذكر في القوانين انه يستلزم أن تصبح القضية ذات الموضوع الخارجي مؤلفة من جزءين لا من ثلاثة، فالقضية تتألف من موضوع ومحمول والنسبة بينهما. فإذا اتيت بالأمر بنفسه، بدل ان اقول هذا كتابٌ، قلت: " كتابٌ " اتيت بالموضوع بنفسه خارجا وحملت عليه لفظ، نسبة ومحمول أما الموضوع فهو الموضوع خارجا. وقلنا سابقا ان هذا هو الاصل، وان الداعي لوضع اللفظ هو انني لا استطيع غالبا بل هو محال ان أتي بالمعاني بنفسها، وحينئذ وبسبب الحاجة اضطررت أن أتي بالمعاني بألفاظها. هذا هو الغرض من الاوضاع، وعندما استعمل اللفظ يحصل الايجاد، والوضع مقدمة في سلسلة العلل ويصبح كالعلّة الواقعية بعد الوضع، فالوضع هو هذه العلاقة التي جعلت بحيث لو استعملتُ اللفظ لوجد المعنى تنزيلا او اعتبارا. وهذا يؤدي إلى هوهوية بين اللفظ والمعنى لكن تنزيلا واعتبارا ولا اشكال على ذلك، بل هو الامر العقلائي على ذلك.         
[10]  سورة المائدة (101).
[11] سورة آل عمران (97).