الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

35/02/07

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: الأوامر
  قلنا أن لفظ الأمر قد استعمل في معان عديدة. وقد وقع الخلاف كما ذكرنا في الدرس السابق في الموضوع له. والثمرة أنه إذا ورد لفظ الامر نحمله على أي معنى، مثلا ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [1] ما معنى الأمر هنا؟ عند الشك في المراد نحمل اللفظ على المعنى الحقيقي، لذلك نبحث عن المعنى الموضوع له الامر، فيكون مجازا في غيره بعلاقة ما.   
 هل مادة الأمر لفظ موضوع لجميع المعاني على نحو الاشتراك اللفظي؟
 أم موضوع للجامع الكلي المشترك بينها على نحو الاشتراك المعنوي؟
 أم موضوع لبعضها دون الآخر؟ وإذا كان موضوعا على النحو الأخير فما هو الموضوع له؟
    اولا الاشتراك اللفظي:
  أما الاشتراك اللفظي في الجميع فبعيد وإن استعمل في الجميع، فإن الاستعمال ليس علامة على الحقيقة، لأنه أعم من الحقيقة والمجاز. ولا دليل على الوضع للمعاني الخمسة عشر سوى الاستعمال. إذ لا دليل على الاشتراك اللفظي في الجميع. ثم إن الاشتراك اللفظي له صورتان وكل منهما يحتاج إلى دليل، تارة ان يكون موضوعا لكل منها على حدة بنحو الوضع عام والموضوع له عام، نتصور الجامع ونضع له، نتصور المعنى كالوجوب ونضع له أو نتصور الشأن ونضع له، وتارة ان يكون بالوضع العام والموضوع له خاص، وكلتا الصورتين يحتاج إلى دليل. الوضع العام والموضوع خاص يحتاج إلى الداعي والدليل، وكل اشتراك لفظي يحتاج إلى داع ودليل، كلاهما مفقود، فلا دليل على الاشتراك اللفظي.     
  ثانيا الاشتراك المعنوي:
 يمكن أن يكون للألفاظ جذرا أساسيا واحدا ثم تفرعت عنه المعاني، ولكن هذا أمر يختلف عن الوضع، فقد يكون الموضوع له معنى واحد يكون هو الجذر، ثم استعمل في معان أخرى مجازا، ثم كثر المجاز واشتهر، ثم تمَّ الوضع للمعاني الأخرى.
  ويدل على عدم إمكانية الاشتراك المعنوي أمور:
  اولا: أن الوضع على نحو الاشتراك المعنوي يحتاج إلى جامع يوضع له اللفظ، وهذا الأمر مفقود بين مجموع المعاني فهي على قسمين: معنى حدثي وهو الطلب وأشباهه، ومعنى جامد وهو الشأن وأشباهه. والجامع بينهما يجب أن يكون كليا ذاتيا ينطبق على الحدثي والجامد، وهذا أمر غير معقول. فما ينطبق على الحدثي لا ينطبق على الجوامد، وما ينطبق على الجوامد لا ينطبق على الحدثيات. مثلا: ما الجامع بين الحجر والنوم؟ لا يمكن ان يكون مفهوم الشيء أو مفهوم الموجود هو الجامع لأنه عرض عام، " النوم " حدث " والحجر " جامد، لا جامع ذاتي بينهما.        
  ثانيا: الحدثي وهو الطلب وشباهه كالوجوب والاباحة والاذن، قابل للاشتقاق فتقول: أَمْر، أَمر، يأمُر آمر مأمور..  أما الجوامد كالصفة والقدرة والشأن فغير قابلة للاشتقاق، نعم هي قابلة للتثنية والجمع، فتقول: أمر، أمران، أمور.
 والاشتقاق في بعض المعاني وعدمه في الآخر شاهد وجود وضعين.
  ثالثا: جمع أمر بالمعنى الحدثي على أوامر، وجمعه بالمعنى الجامد على أمور. واختلاف الجمع أيضا شاهد على وضعين.
  والذي يمكن أن يقال: إن لدينا وضعين: وضع للحدثيات وهي الطلب والوجوب والاباحة والتهديد والندب وأشباهها، ووضع للجوامد وهي الشيء الخاص والشأن والصفة والقدرة والغرض والفعل والحادثة وامثالها. إذن هناك نوعان و معنيان تحتهما اصناف، فلنتصور أن هناك جامع مشترك للفظ الامر بين الحدثيات وبين الجامد فيها فيكون هناك اشتراك لفظي بين هذين الجامعين، وهذا الجامع بالنسبة لأصنافه مشترك معنوي. مثلا: لفظ " العين " مشترك لفظي بين العين الباصرة والعين النابعة، العين الباصرة لها افراد بحسب لونها وشكلها والمشترك بينها انها عين باصرة موضوع له، والعين النابعة لها افراد ولها جامع مشترك بينها.       
  والذي يهمنا في علم الأصول هو المعنى الأول أي الطلب وأشباهه وأنواعه وأقسامه، وهو العنصر المشترك بين الأبواب الفقهية، فيكون من مباحث اللفاظ من علم الأصول على ما هو المتداول المعروف في أبحاث وكتب علم الأصول. وإن ذهبنا نحن إلى خلاف ذلك من كون مباحث الألفاظ خارجة عن علم الأصول وأن كانت داخلة في كتب الأصول، بل هي من شؤون علم اللغة، وإنما يدرسها الأصوليون لتقصير علماء اللغة في بحثها وتحقيقها وتدوينها.
  أما الموضوع له الثاني وهو الجامد كالشأن والصفة وأشباههما، فهذا أمر من شؤون أهل اللغة، وليس مسألة أصولية فنترك البحث فيها لأهل اللغة ولا ثمرة كبيرة فيها. نعم نلفت النظر إلى نقطة ذكرها المحقق النائيني (ره) نقلا عن تلميذه السيد الخوئي (ره) من كون الأهمية مأخوذةٌ في مفهوم الأمر في هذا القسم، ونحن مع السيد الخوئي (ره) الذي أجاب عن هذه النقطة بقوله: { لا دليل على أخذ الأهمية في معنى الأمر بحيث يكون استعماله فيما لا أهمية له مجازا. وذلك لوضوح أن استعماله فيه كاستعماله فيما له أهميته في الجملة، من دون فرق بينهما في هذه الناحية أصلا }. [2]
وهذا كلام صحيح، فإننا لا نجد في أنفسنا فرقا في استعمال لفظ الأمر بين قولنا: هذا أمر عظيم، وقولنا: هذا أمر تافه. ولو كان الموضوع له هو خصوص المهمّ، لكان هو الذي يتبادر اليه الذهن إليه، ولكان الآخر مجازا يحتاج إلى قرينة، كذلك، ولو كانت الاهمية داخلة في معناه لكان في قولنا: " هذا أمر تافه" تناقض ظاهر وهو ما لا نجده. تماما كقولك للجبان: أنت أسد، إلا إذا أردت الجبن بعلاقة مجازية كالضدين، وذلك باستعمال اللفظ الموضوع لمعنى في ضده، كقولنا للأعمى أنه بصير، بعلاقة التضاد، وهي من العلاقات المصححة للمجاز. فيكون قولنا للجبان: أنت أسد من باب السخرية مثلا.  اما في المجاز لا يقع التناقض كما لو قلت أنه اسد وهو جبان، مع ان الاسد شجاع، جردنا الاسد عن ما هو فيه فيقع التانقض.
   غدا أن شاء الله ننقل الكلام إلى ما هو المهم في علم الأصول وهو الأمر بالمعنى الحدثي: أي الطلب الخاص وأشباهه.









[1] سورة الاسراء (85).
[2]  محاضرات الفياض ج 2 ص 7.