الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

34/05/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الصحيح والأعم
 بحث ثمرة النزاع
  الإيراد الثالث: بعد أن كان الإيرادان الأول والثاني في عدم جواز التمسك بالإطلاق على القولين الصحيحي والأعمي، كان الإيراد الثالث هو جواز التمسك بالإطلاق على القولين، فلا ثمرة في البين.
  بيانه: إن مناط جواز التمسك بالإطلاق هو كون المتكلم في مقام بيان ولم ينصب قرينة على التقييد وعليه:
  فالأعمي بعد ثبوت العنوان والشك في دخالة شيء في المأمور به " كالسورة " مثلا، يتمسك بالإطلاق، لأن السورة لا يكون لها دخالة في المسمى. فعلى القول بالأعم الصلاة بدون سورة هي صلاة، والشارع في مقام البيان ولم يبيّن جزئية السورة فأتمسك بصدق لفظ الصلاة وهو المأمور به، وبأصالة التطابق بين المسمى والمأمور به تسمى هذه صلاة، أشك في وجوب السورة فبأصالة الاطلاق وهي في مرحلة الاصل اللفظي انفي وجوب السورة وليس بأصالة عدم الوجوب لأن ذلك في مرحلة الاصل العملي.
  والصحيحي يتمسك أيضا بالإطلاق بعدما علم بوجوب بعض الأمور وشك بوجوب غيرها، فلو كان هناك جزء آخر لبيَّنه الشارع. كما في افعال العبادات، في الزكاة فإنها في أمور ثلاثة: الانعام الثلاثة والغلات الاربعة والنقدين، لو كان هناك زكاة واجبة في غير هذه الامور لبيَّن.
  فإذن الاطلاق على الصحيح والاعم جارٍ.
  ومن هنا تمسك الفقهاء (رض) بإطلاق صحيحة حماد المروية في الوسائل ج 4 ب 1 من أبواب أفعال الصلاة باب كيفيتها وجملة من أحكامها وآدابها [1] : محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن حماد
 بن عيسى أنه قال: قال لي أبو عبد الله (ع) يوما: تحسن أن تصلي يا حماد؟.... فقال: لا عليك قم صلَّ، قال: .... ما أقبح بالرجل [2] .... فقام أبوعبد الله (ع) مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه
 جميعا ....
  فقد استدل الفقهاء (رض) بهذه الصحيحة لدفع جزئية أو شرطية أي شيء عند الشك، فقالوا: نتمسك بإطلاق صحيحة حماد، فلو شككت في وجوب الاستعاذة مثلا لدفعته بإطلاق رواية حماد وغيرها. وأقول: لو وجبت الاستعاذة لبيّن (ع)، ومع عدم البيان نتمسك بالإطلاق.
  والجواب: أن الإطلاق لا يعقل إلا بعد ثبوت إطلاق اللفظ على جامع بين قسم أو قسمين أو أكثر، وهذا المقسم هو متعلق الحكم، ولذا لا يقعل الإطلاق اللفظي على الصحيح لاحتمال دخالة الجزء المشكوك في المسمى فلا يحرز العنوان.
  وأما ما تمسك به الفقهاء(رض) من صحيحة حماد وغيرها فهو من الإطلاق المقامي، وليس من الإطلاق اللفظي الذي هو محل الكلام.
  بيانه: إن الإطلاق على قسمين: إطلاق لفظي وإطلاق مقامي.
  أما الاول: فهو لفظ لم يقيّد، فيحتاج إلى لفظ صادق على مقسم، ومع تمامية مقدمات الحكمة يتم الاطلاق.
  أما الثاني: فلا حاجة لنا للفظٍ ينطبق على المقسم، بل لما كان المقام في بيان أفعال الصلاة، مثلا
 نقول: لو أراد البيان لبيّن.
  والتمسك بالإطلاق في الصحيحة من قبيل الإطلاق المقامي [3]
  الذي لا يحتاج إلى أكثر من السكوت عن غير ما تمَّ بيانه.
  فهذا الايراد مبني على الخلط بين الاطلاقين.
  والنتيجة: أن الاطلاق اللفظي يجري على الأعمي دون الصحيحي، أما الإطلاق المقامي فيجري على القولين.
  لا يقال: إن الثمرة واحدة، فقد جرى الإطلاق على القول بالصحيح وعلى القول بالأعم، فالنتيجة واحدة، وهي نفي التقييد عند عدم البيان، فلا تكون السورة المشكوكة مطلوبة، إذن لا فرق.
  فإنه يقال: إن الإطلاق المقامي لا يؤدي إلى نفي القيد أو الجزء أو الشرط، بل الذي يفيد هو أصالة عدم الجعل، فإذا شككت في وجوب الإستعاذة قبل قراءة الحمد يكون النفي بإجراء أصالة عدم الجعل، وهي أصل عملي وليست أصلا لفظيا، وبهذا يكون الإطلاق المقامي في آخر المطاف من الاستدلال، وقد ذكرنا أن الأصل العملي في مسألتنا هو من تطبيقات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وسيأتي.
 
 والحمد لله رب العالمين.
 


[1] ( أبواب أفعال الصلاة ) 1 - باب كيفيتها وجملة من أحكامها وآدابها. 1 - محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن حماد بن عيسى أنه قال: قال: لي أبو عبد الله (عليه السلام) يوما تحسن أن تصلي يا حماد؟ قال قلت يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة قال فقال (عليه السلام) لا عليك قم صل قال فقمت بين يديه متوجها إلى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت فقال (عليه السلام) يا حماد لا تحسن أن تصلي ما أقبح بالرجل (منكم) أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟! قال حماد فأصابني في نفسي الذل فقلت جعلت فداك فعلمني الصلاة فقام أبو عبد الله (عليه السلام) مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات واستقبل بأصابع رجليه (جميعا) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة فقال الله أكبر ثم قرأ الحمد بترتيل وقل هو الله أحد ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ثم قال الله أكبر وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرجات ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره حتى لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردد ركبتيه إلى خلفه ونصب عنقه وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال سبحان ربي العظيم وبحمده ثم استوى قائما فلما استمكن من القيام قال سمع الله لمن حمده ثم كبر وهو قائم ورفع يديه حيال وجهه وسجد ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرات ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه وسجد على ثمانية أعظم الجبهة والكفين وعيني الركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والأنف فهذه السبعة فرض ووضع الأنف على الأرض سنة وهو الإرغام ثم رفع رأسه من السجود فلما استوى جالسا قال الله أكبر ثم قعد على جانبه الأيسر ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى وقال استغفر الله ربي وأتوب إليه ثم كبر وهو جالس وسجد الثانية وقال كما قال في الأولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود وكان مجنحا ولم يضع ذراعيه على الأرض فصلى ركعتين على هذا ثم قال يا حماد هكذا صل ولا تلتفت ولا تعبث بيديك وأصابعك ولا تبزق عن يمينك ولا (عن) يسارك ولا بين يديك ورواه في (المجالس) عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد ابن عيسى إلا أنه قال وسجد ووضع كفيه مضمومتي الأصابع بين ركبتيه حيال وجهه وترك قوله والأنف.
[2] فائدة: يقال في النحو أن للتعجب صيغتان وهما: ما أفعل زيدا، وأفعل به، مثلا: ما أحسن زيدا، وأحسن به، فلا يوجد: ما أفعل يزيد. ولكن ورد في الروايات ذلك، والنص مقدم على قول علماء النحو. ولكن إذا التفتنا إلى أن هذه الروايات وردت في زمن الامام الصادق (ع) وهو زمن بداية كثرة اللحن ودخول الموالي في اللغة، وخصوصا إذا علمنا أن كثيرا من الروايات نقلت بالمعنى والحن قد دخل حتى في الروايات كما في كلمة " أيش يقولون "، بهذا نتخلص من مسألة التعارض بين اقوال علماء النحو وبعض الروايات. وأما القرآن الكريم فيختلف الأمر فيه عن الروايات فهو قمة الفصاحة والبلاغة فنأخذ اللغة العربية منه.
[3] تذكير: الاطلاق المقامي أو الأحوالي ذكر في مسألة أخذ الامر أو العلم في متعلق الأمر أو متمم الجعل، قالوا إنه لا يمكن أخذ داعي الامر في متعلق الامر وإلا لزم الدور وللزم اخذ المتقدم في المتأخر، بل لا يمكن أخذ العلم في متلق الامر، مما دفع الشيخ النائيني (ره) وغيره إلى التمسك بالإطلاق المقامي، لإثبات أن الاصل في العبادات التوصلي وليس التعبدي. فتمسكوا بالإطلاق المقامي لأنه لا يمكن أن يقيِّد.