الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

34/03/30

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: الصحيح والاعم
  ذكرنا في هذه المسألة أنه تارة يعبرَّ بالوضع، أي هل الفاظ العبادات أو المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم، فالوضع مأخوذ بعنوان المسألة. وتترتب عليه أمور ذكرناها. وتارة يعبِّر بالاسماء، أي هل الفاظ العبادات أسام للصحيح؟ كما عبَّر صاحب الكفاية (ره). وتارة يعبّر بالاستعمال، فيقال: هل استعمالات الشارع هي في الصحيح أو في الأعم؟ وهذه التعبيرات تنفعنا في شمول هذه المسألة للوضع التعيّني والاستعمالات المجازية بداية وشمولها لما نسب للباقلاني، ولذلك اختلفت كلمات الاصوليين في عنوان المسألة بحسب ما يراه. فمن اراد أن يشمل المسألة حتى على القول بالحقيقة اللغوية عبَّر: " بالاستعمالات "، لان الاستعمال يشمل الحقيقة والمجاز.
  وللتذكير: في كيفية الوضع، بعضهم قال: أن الصلاة موضوعة لغة للدعاء، ثم نقلت إلى هذه الافعال الخاصة. تارة النقل على لسان الشارع بوضع تعييني، وتارة بوضع تعيّني، بكثرة استعماله على لسان الشارع حتى صار موضوعا لهذه المعاني الخاصة (الافعال)، فقد استعمل مجازا في مرحلة من الزمن ثم صار حقيقة. وككل مجاز استعماله يحتاج لأمرين: العلاقة المناسبة والقرينة الصارفة.
  وهنا عند تصوير الوضع التعيّني، عندنا المعنى القديم اللغوي وهو الدعاء، وصار عندي معنى جديد وهو الافعال الخاصة واريد ان استعمله مجازا في المعنى الثاني فاحتاج للعلاقة المناسبة والقرينة الصارفة. فالعلاقة بين المعنى اللغوي الذي هو الدعاء، والمعنى الجديد الذي هو الافعال الخاصة من ركوع وسجود. وهنا يطرح السؤال التالي: هل المستعمل فيه هو الصحيح أو الاعم؟ وبعبارة اخرى: هل لوحظت العلاقة بين الدعاء والصلاة الصحيحة؟ أو بين الدعاء والصلاة الاعم من الصحيحة والفاسدة؟
  أي حتى في الاستعمال المجازي يمكن أن نتصور مسألة الصحيح والاعم، هناك معنيان المعنى الجديد الذي هو الافعال الخاصة واشك انها هي الصلاة الصحيحة أو الاعم؟
  فعلى الوضع التعييني تصوير النزاع سهل، هل تم النقل للصحيح أو تم النقل للأعم؟.
  وعلى الوضع التعيّني ايضا يمكن تصور الخلاف.
  وأما على الحقيقة اللغوية التي ليس فيها أي نقل، كيف نستطيع أن نتصور الخلاف؟ فإذا كان الموضوع له هو الدعاء، وكان الاستعمال دائما بمعنى الدعاء إذ ليس هناك دعاء صحيح ودعاء فاسد، ولم يحصل وضع على لسان الشارع، هل يمكن أن نتصور الخلاف أو لا؟
  لذلك من تصور الخلاف عبّر " بالاستعمال " لأنه أعم من الحقيقة والمجاز.
  يقول صاحب الكفاية: لا شبهة في تأتي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال. وغاية ما يمكن أن يقال في خصوصه أن النزاع وقع على هذا في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم؟ بمعنى أن أيهُما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزَّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى معيِّنة للآخر. وأنت خبير بأنه لا يكاد يصحح هذا إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك وأن بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معيِّنة أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك. وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلاني وذلك بأن يكون النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلا بالأخرى الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الأجزاء والشرائط أو هما في الجملة؟ فلا تغفل. انتهى كلامه رفع مقامه.
  فإشكال صاحب الكفاية منصب على مقام الاثبات، وكأنه في مقام الثبوت يسلم بالخلاف، أي استعمل اللفظ مجازا من المعنى اللغوي إلى المعنى الجديد، لكن هل هو خصوص الصحيح او الاعم؟ فكيف استعمل بداية، وعلى أي المعنيين استمر عليه وكان الأخر بتبعه مجازا.
  كأنه يقول: ان هذا الكلام ممكن ولكن أنّى لهم بإثبات ذلك، كان الدليل عليه محال.
 ولكن يرد أمران:
  الاول: ما ذكرناه في التعبير الثالث لعنوان المسألة التي ذكرناها ( الوضع والأسام والاستعمال)، فتشمل الاستعمالات المجازية، ويأتي الخلاف حتى على عدم القول بثبوت الحقيقة الشرعية.
  الثاني: إن إشكاله (ره) هو في عالم الاثبات، وكلامنا في تصوير المسألة والخلاف في عالم الثبوت. والعجز عن إثبات أي من العلاقتين فهو من مسائل عالم الاثبات. والعجز وخفاء الدليل ليس بدليل على عدم تأتيه، فقد يأتي الغير ويهتدي إلى دليل.
  ومن المقدمات للصحيح والاعم:
  المراد من الصحة والفساد.
  نحن نعلم أن التعريف في كل علم واصطلاح يكون بحسب المهم في نظر أهل العلم ولذا اختلف تعريف الصحيح عند الاصوليين عنه عند الفقهاء، وعنه عند المتكلمين، وذلك بحسب ما يهتم له كل علم.
  فالفقهاء يهتمون بأفعال المكلّف وبكيفية امتثال الأمر أداء أو قضاء، ولذا فسّروا الصحة بإسقاط القضاء، وفي المعاملات بتحقق الأثر. وفي المقابل الفساد هو عدم تحقق المأمور أداء وعدم سقوطه قضاء. وفي المعاملات عدم تحقق الأثر.
  أما المتكلمون فهم يهتمون بالثواب والعقاب والجنة والنار فعبرّوا عن الصحة بموافقة الشريعة وفي مقابلها الفاسد.
  أما الاصوليون فالصحة عندهم هي تمامية الاجزاء والشرائط.
  فالصحة عند الجميع هي التمامية، كما هو معناها لغة وعرفا. واختلاف التعريفات هو بحسب اختلاف الانظار وفيما هو المهمّ عند أهل العلم.
  الصحة والفساد أمران إضافيان:
  بعد بيان اختلاف التعريفات يقول صاحب الكفاية (ره): كما لا يوجبه أي كما لا يوجب تعدد المعنى اختلافها بحسب الحالات من السفر والحضر بالاختيار والاضطرار إلى غير ذلك كما لا يخفى، ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى. فتدبر جيدا. انتهى كلامه رفع مقامه.
  وهو كلام تام، لأن تعدد الانظار واللوازم لا يعني تعدد المعنى، فإسقاط القضاء لازم للصحة عند الفقهاء، وموافقة الشريعة لازم لها عند المتكلمين، وهما لازمان لمعنى واحد وهو التمامية، ولا مانع من تعدد اللوازم لملزوم واحد.
  وايضا واضح أن نفس الفعل قد يكون صحيحا في حالة وفاسدا في حالة أخرى، فالصلاة مع التيمم صحيحة مع فقدان الماء، وفاسدة مع وجدانه.
  وقد عبّر صاحب الكفاية (ره) بأن الصحة والفساد أمران اضافيان، ومراده ان الصحة تختلف بحسب الحالات، وليس المراد التضايف [1]
 الذي درسناه في المنطق، لان الصحة والفساد هنا أمران وجودي وعدمي، وفي المتضايفين أمران وجوديان. فمراده بحسب اختلاف الحالات.
 
 
 
 والحمد لله رب العالمين.
 


[1] وللتذكير: قسَّموا التقابل وهو التنافي بين المعنيين إلى أربعة أقسام: التناقض: ويكون بين امرين وجودي وعدمي مطلقا لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثلا: زيد وعدم زيد . الملكة والعدم: وهما امران وجودي وعدمي لا يرتفعان ولا يجتمعان فيما من شأنه الاتصاف كالبصير والاعمى. ويرتفعان في غيره. التضاد: امران وجوديان يتعاقبان على موضوع واحد، لا يجتمعان ولكن قد يرتفعان. كالأسود والابيض. التضايف: وهما أمران وجوديان، والاتصاف من جهتين كالأبوة والبنوة، فزيد من جهة أب ومن جهة أخرى ابن.