الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

34/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: علامة الحقيقة والمجاز
 الحقيقة الشرعية:
  كان الكلام في الحقيقة الشرعية وبيّنا بعض الأمور في المقدمة التي تنفعنا في فهم أمور اخرى أيضا، وذكرنا أن المعنى اللغوي لبعض الالفاظ وإن اشتهر على الالسنة أن لها معاني، قلنا ان المتبادر معان أخرى فيها نكهة التعبد ككلمة: الصلاة والصوم والحج وغيرها كما ذكرنا.
  المختار:
 والذي نراه: أن الشارع استخدم الالفاظ بالمعنى اللغوي بداية [1] كما يشير إليه قول الرسول الأكرم (ص): " صلوا كما رأيتموني أصلي " فعندما يقول: " صلوا " فقد قالها كما يفهمها ويتداولها الناس. أي قد قام بالحركات والافعال المخصوصة ثم طبَّق عليها لفظ " صلاة " نفس المفهوم بالمعنى اللغوي، حيث امرهم بالصلاة بهذه الكيفية فقال: " صلوا "، ثم استعمله في المعاني المتشرعية وهي الحركات المخصوصة في الصلاة، ولكثرة الاستعمال كما هو في الكثير والمتداول في هكذا حالة من حالات الوضع تم النقل على لسان الشارع، ولذلك نرى في القرآن كلا المعنيين. مثلا في المعنى اللغوي: " وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم ". ولو شككنا في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه نستطيع الاستفادة من أصالة عدم النقل.
  ونرى في المعنى المتشرعي، أو على الأقل المراد هو المعنى المتشرعي كقوله تعالى: " وأقيموا الصلاة ".
  ومن هنا نقول: إن هذه الالفاظ أصبحت مشتركا لفظيا بين المعنيين اللغوي والمتشرعي، وذلك في لسان الشارع القرآن المجيد والنبي الاكرم (ص).
  والسبب في ذلك أن المعنى المنقول من المعنى اللغوي إلى معنى آخر اصطلاحي على قسمين:
  تارة يهجر المعنى الاول ويكون المعنى الحقيقي هو خصوص المعنى الاصطلاحي، حينئذ يكون النقل نقلا تاما وصار المعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الجديد، وإذا استعمل في المعنى اللغوي الاول يكون قد استعمل مجازا، فمثلا في الصلاة هو الاعمال المخصوصة، والصلاة على الميت يقال انها مجرد دعاء، فصار استعمال لفظ الصلاة على الميت في المعنى اللغوي الاول الدعاء، فهل الصلاة على الميت كلمة مجازية بالاصطلاح المتشرعي؟ ولذلك بناء على النقل التام وهجر المعنى الاول يصبح الاستعمال في المعنى
 الاول مجازيا، ويصبح استعمال " الصلاة على الميت " مجازا.
  وتارة لا يهجر المعنى الاول بل يستعمل على لسان الشارع صاحب المصطلح، فهنا يصبح مشتركا لفظيا. فلفظ الصلاة أصبح مستعملا في لسان الشارع على نحو الحقيقة في معنيين فيحاج إلى قرينة معيِّنة. فالقرينة بالمعنى المجازي قرينة صارفة، والقرينة بالمعنى المشترك قرينة معيِّنة.
  فالمعنى الاول موضوع له لغة وهو الاسبق وهو المعاني العبادية والافعال بين الرب والمربوب.
  والمعنى الثاني موضوع له بالوصع التعيُّني، وهو الافعال الخاصة من ركوع وغيرها.
  وإذا كانت الالفاظ مشتركا لفظيا كان لا بد من قرينة معيِّنة لأحد المعنيين. وإنا نلاحظ أن النصوص الواردة في مقام التشريع كانت بالمعنى المتشرعي، مثل: الافعال المخصوصة، ومثل الروايات الواردة في كيفية الصلاة أو قول الله عز وجل" أقيموا الصلاة " أو قول النبي (ص) " تكبرون وتحمدون وتسبحون عقيب كل صلاة ".
  وإذا كان في مقام ورود لفظ " صلاة " بالمعنى اللغوي " إن صلاتك سكن لهم ". ادعي أن الفاظ العبادات الواردة في لسان الشارع معلوم معانيها المرادة، فلا داعي لهذا البحث أي الحقيقة الشرعية للعلم بالمراد.
  نكمل: يقول الشيخ الآخند (قده) في كفايته: ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه. ومنه قد انقدح حال دعوى الوضع التعيّني معه، ومع الغض عنه، فالإنصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل.
  لعله اراد من التأمل، أنه قد استعمل في لسان الشارع بداية بالوضع اللغوي ثم لكثرة الاستعمال على لسانه ولسان تابعيه صار موضوعا للمعنى المتشرعي الجديد، ونقول انه لم يكن هناك هجر للمعنى الاول فصار مشتركا لفظيا على لسان الشارع ويحتاج إلى قرينة معيِّنة لهذا المشترك اللفظي. وغالبا ما يكون الوضع أذا كان في مقام التشريع يكون المراد المستعمل فيه هو المعنى المتشرعي، وإذا لم يكن في هذا المقام يكون المعنى هو المعنى اللغوي.
  ثم يقول (قده): وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع، لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالأصل المثبت، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، واصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل.
  في هذا الكلام أربعة مطالب وسنبينها ليس فقط لأجل مطلب الحقيقة الشرعية لكنها ستنفعنا في كثير من المطالب الآتية وخصوصا في مباحث الاصول العملية.
  المطلب الاول - وقد بيناه سابقا - يقول في الكفاية: وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت. فهنا وضع وهناك استعمال، وهذا يعني بعد ان يتم النقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي الذي هو الافعال المخصوصة ثم استعملته.
  فإذا تم الاستعمال بعد الوضع، احمل المعنى المستعمل فيه على المعنى المتشرعي، وإذا لم يتم احمل المعنى المستعمل فيه على المعنى اللغوي لعدم الوضع هنا. فالحمل على المعنى ينفعنا في جريان أصالة الاطلاق.
  مثلا: " أقيموا الصلاة " هذه الصلاة شككت في اشتراط أمر ما فيها: السورة كجزء أو شككت في اشتراط الطهارة، أو في استقبال القبلة أو في استقبال القبلة في النوافل إلى آخره. إن كان المراد المعنى اللغوي من " أقيموا الصلاة "، العنوان قد تحقق وهو الدعاء أو العلاقة الخاصة التذللية، فحينئذ استطيع طرد كل الشروط، بعد تمام العنوان استطيع اجراء اصالة الاطلاق.
  وأما إذا حملته على المعنى المتشرعي فهل يجري الاطلاق أو لا؟ هذه المسألة تصبح من فروع مسألة الصحيح والاعم. إن قلنا أنه موضوع للصحيح فلا يجري الاطلاق، بل يجب الاتيان بالشرط المشكوك لان الصلاة موضوعة للصلاة الصحيحة، فمع عدم انطباق العنوان على الفرد المشكوك لا اكون قد ابرأت ذمتي فلا بد من الاتيان بالشرط، فتأتي هنا مسألة الاحتياط أو مسألة الاقل والاكثر الارتباطيين.
  غدا نبحث مطلب آخر لصاحب الكفاية، وهو اصالة تأخر الحادث واصالة عدم الحادث، تعارض الاصالتين، اصالة عدم القرينة، استصحاب القهقرى.
  هل هناك فرق بين استصحاب عدم الحادث واصالة عدم الحادث أو لا؟
  هذه الفروع وهذه التعبيرات سنبين معانيها وتعارضاتها، فلها ثمرة كبيرة.
 
 والحمد لله رب العالمين.


[1] في الجاهلية كان هناك حج فيه تلبية وطواف، وتلبيتهم كانت: اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك الا شريك هو لك تملكه وما ملك.