الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

34/01/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 تبعية الدلالة للإرادة
  كان الكلام في الدلالة، قالوا أن هناك ثلاث دلالات: الدلالة التصورية والتصديقية الاولى والتصديقية الثانية. وكما ذكرنا أنه عندما يسمع السامع المتكلم أولا يخطر في باله معنى ولو كان من وراء جدار أو من لافظ بلا شعور ولا إختيار كما يقول صاحب الكفاية (ره) يُعبَّر عنها بالدلالة الإخطارية التصورية. ثم بعد ذلك، السامع إما أن يقطع بأن المتكلم يريد تفهيمني ما قال، ومرّة أقطع بأنه لا يريد، وأخرى أشك، فهذه هي الدلالة التصديقية يعني أني أعلم أنه يريد أن يفهمني هذا المعنى، وتارة أعلم أنه يريد أن لا يفهمني، مثل ما لو كان نائما أو ساهيا أو غالطا. ففي حال الشك في تفهيم المعنى احتاج العقلاء إلى مبنى يبنون عليه، فقالوا: الاصل في المتكلم أن لا يكون ساهيا وأن يكون قاصدا للمعنى. هذه بعض موارد أصالة السند، فالأصل عدم السهو والنسيان والغلط، فأن يكون قاصدا للتفهيم هذه الدلالة التصديقية الاولى. الدلالة التصديقية الثانية هي أنا كسامع علمت أن هذا المتكلم يقصد لكني أشك أنه يقصده جديا أو لا؟ هل هو ثابت واقعا أو لا؟ هناك ثلاث حالات: إما أن أعلم قصده الجدي، أو أعلم بعدم قصده الجدي أو أشك. فإذا علمت بقصده الجدي تم المراد وحينئذ تتم الدلالة التصديقية الثانية، وإذا علمت أنه لا يريده جديا لا تتم الدلالة التصديقية الثانية، وإذا شككت كان عند العقلاء تبان فيما يسمونه أصالة التطابق، فهنا مورد هذه الاصالة، الاصل تطابق الدلالة التصديقية الثانية أو المراد الجدي مع المراد الاستعمالي التفهيمي.
  وقد ذكرت أن أفضل شيء لاستيعاب المطلب أن يعبر الإنسان بالتعبيرات المعاشة كما ذكرنا في مسألة العَلَم الجنسي والعَلَم الشخصي واسم الجنس، عبرنا بتعبير معاش بأبو خليل وابو اسماعيل للجندي. وهنا مثال واضح يوضح الفكرة تماما وينفعنا إن شاء الله في أصالة الاطلاق وأصالة العموم، وهو مثال النكتة والطريفة، هناك بعض الظرفاء يطلقون نكات لإدخال السرور على الناس واضحاكهم، مثلا: إذا ذكرت نكتة عن جحا بأنه مثلا قال لمجموعة من الصبيان يلعبون الكرة ويزعجونه كثيرا فأمرهم بالانصراف فلم ينصرفوا فقال لهم أنه في الشارع المجاور عرس ومن عادة الاولاد أنهم يحبون حضور الاعراس للحلويات الموزعة، وبعد ذهاب الاولاد حدَّث جحا نفسه وقال يمكن أن يكون هناك عرس واقعا فركض معهم. هذا يدل على أن الناس في الواقع أن العقل الجمعي غبي لا يفكر جيدا.
  فإذا سمعنا هذه الطرفة التي ذكرها البعض، السامع أولا عندما يسمع القضية يخطر في باله معنى، هذه هي الدلالة التصورية أو ما يسمونه بالدلالة الإخطارية، ثم أن السامع يعلم أن المتكلم أراد تفهيمه، قصد المعنى وإلا لا يتم الاضحاك. فهذه هي الدلالة التصديقية الاولى وقد تمت ويسمونها الدلالة الاستعمالية التفهيمية وهنا المراد الاستعمالي، وهنا بعض موارد أصالة السند ولنسمها أصالة القصد أفضل واوضح للمعنى.
  لكن هنا السامع يعلم بأن هذه القصّة غير واقعية وليس لها ثبوت واقعا فالدلالة التصديقية الثانية أعلم أنها غير تامة لأنه ليس هناك إرادة جدية لهذا المعنى لأني أعلم أنه غير تام لأنها نكتة، واقعا غير موجودة، هنا المراد الجدي.
  سؤال: في حال الاخبار عن كذب.
  الجواب: هنا كثير من النكت واقعا صحيحة، وفي المرحلة الثانية أما أن أعلم أنه غير جدي وإما أن أعلم أنه كاذب وإما أن أشك، ثلاث أحوال لا رابع لها. إذا علمت أنه كاذب كما في النكتة وأنها غير واقع مجرد خيال، قصد تفهيمي ولكن أعلم أنه غير واقع وأعلم أنه لم يريده جدا، فالدلالة التصورية تمت والتصديقية الاولى تمت والتصديقية الثانية لم تتم. إذا علمت أنه واقعي أو أريد تفهيمي تتم الدلالة التصديقية الثانية، وإذا شككت أنه صادق أو كذاب حينئذ كان لا بد عند العقلاء من أصل يرجعون إليه، وهي أصالة التطابق، تطابق المراد الجدي مع المراد الاستعمالي، ولذلك قالوا: أن خبر الواحد لا يجوز العمل به إلا بعد إجراء أربع أصالات: أصالة الظهور، اصالة السند، أصالة الجهة، واصالة التطابق.
  أصالة السند: حتى أطرد عن الراوي احتمال الخطأ والغلط أو الكذب لهوى ما، كما عن البعض لشدة هواه في الامير (ع) يغالي في كلامه عنه وهو يعتقد أنه يخدم، وكما في رواية عن أبناء العامة ان راويا قال في فضل قراءة السور أن لها فضل، فقال له أحدهم من أين أتيت بهذا، قال أنه قد رأى الناس أنهم ذهبوا إلى قراءة المغازي والملاحم فأردت أن أعيدهم للقرآن فاخترعت هذا الأجر والثواب، قال: ويحك أن رسول الله يقول: من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار، فقال له: إن رسول الله قال: من كذب عليَّ وأنا كذبت له لا عليه.
  الشاهد أنه أحيانا الراوي قد يكذب لأمر ما، لذلك أصالة السند لا بد منها.
  أصالة الظهور التي هي حجة بين العقلاء التي هي أن المراد الجدِّي ما هو.
  أصالة الجهة عندما اسمع خبرا قد يكون تقيّة أو قد يكون امتحانا، لأجل طرد هذه الاحتمالات أنا بحاجة إلى اصالة الجهة وتسمى بأصالة الصدور.
  والاحتمال الاخير قد يكون المراد الجدي يختلف عن المراد الاستعمالي، في الخبر الجاد يوجد مراد جدي، فاحتاج إلى أصل عقلائي تبانى عليه العقلاء وهو التطابق بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي. إذن نستفيد من هذا الكلام أن هناك مرادا استعماليا وتفهيميا وهناك مرادا جدي عند الشك، أصالة التطابق تجري وهذا الأمر سيفيدنا في مبحث العام والخاص والمطلق والمقيَّد.
  سؤال: أن التصديق الثاني يجب أن يكون في مقام البيان.
  الجواب: مقام البيان أشمل من هذا جميعا، في مقام البيان يشمل المراد الجدي ويشمل بيان الحكم الواقعي أي يطرد التقيّة واحتمال الاوامر الإمتحانية، مع وجود الامر الامتحاني تكون الدلالة التصديقية الثانية تامة، كما في قصة امتحان النبي إبراهيم (ع) في ذبح ابنه، أو إذا قلت لك في مقام الامتحان أن تفعل كذا، فالدلالة التصورية الاولى تمت والتصديقية الاولى تمت، أي المراد التفهيمي، والتصديقية الثالثة ايضا تمت لأنها مرادي جديا أن تفعل هذا، والغاية هي الامتحان. وأصالة التطابق تحتاج أن يكون المتكلم في مقام البيان.
  فإذا أصبحت هذه الدلالات واضحة تماما فلنأتي إلى أيها تسمى دلالة وايها لا تسمى دلالة.
  ذهب السيد الخوئي (قده) إلى أن الدلالة التصورية الاولى ليست دلالة، الدلالة التصديقية الاولى هي الدلالة وذلك نتيجة مبناه أن الوضع تعهد أي تعهد أن لا انطق بهذا اللفظ إلا إذا اردت هذا المعنى أي قصدته، فصار القصد جزء المفهوم، ولذلك ذهب إلى أن التصديقية الاولى هي الدلالة، أما التصورية ليست دلالة بل هي مجرد خطور للمعنى في الذهن.
  السيد الصدر (ره) وصاحب الكفاية (ره) قالوا أن الدلالة هي الدلالة التصورية الاولى، وبعضهم ذهب إلى أن الدلالة التصورية الاولى هي الدلالة والباقي ليس بدلالة.
  فالدلالة التصورية هي الدلالة الإخطارية، الدلالة التصديقية الاولى هي الارادة الاستعمالية، الدلالة التصديقية الثانية هي الدلالة الجدية.
  النقطة الثالثة: هل أن الدلالة تابعة للإرادة أو لا؟
  ذهب صاحب الكفاية (ره) إلى عدم تبعية الدلالة للإرادة حيث يقول في مقدمات مباحث الالفاظ: الخامس: لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بأزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة لالفاظها. - غدا نأتي بالنص -. هذا على خلاف قول السيد الخوئي (قده).
  هناك نقطة مهمة: أن مسألتنا هي مسألة دلالة اللفظ على المعنى من حيث أوضاعها، كوضع ماذا يقتضي أن يكون المعنى، أما الارادات وهي: الارادة الاستعمالية، والتفهيمية، والجدية، هذه حالات نفسية للمتكلم والسامع، لذلك سنصل بالنتيجة إلى أن الدلالة التصديقية الاولى ليست دلالة والدلالة التصديقية الثانية ليست دلالة، ما يخطر في البال ما كان دلالة من حيث الوضع هو هذه الدلالة، أي ماذا يقتضي الوضع، لذلك العلم بالوضع هو السبب، لذلك لا يوجد إلا دلالة واحد هي الدلالة التصورية، أما التصديقية الاولى فهي ناشئة من حالة القصد حالة نفسية من حال المتكلم وليس من حال نفس اللفظ الموضوع له المعنى.
  بعبارة ثانية أيضا مصطلح الدلالة ما هو؟ الدلالة: هي انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى بسبب العلم بالوضع، ولذلك كانت الدلالة هي التصورية فقط، إلا إذا أريد للدلالة اصطلاحا آخر.
  والحمد لله رب العالمين.