الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

33/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الأصول/ مباحث الألفاظ /مقدمات/ سلم العلوم

كان الكلام في المقدمة الثالثة: سلم العلوم. وقلنا إن العلوم أمر اعتباري جمعه جامع، أسسه مؤسس لغرض ما، فكل ما خدم في هذا الغرض فهو من العلم.

والعلوم قسمان: علوم آلية لعلوم أخرى، وعلوم سميناها استقلالية. تارة الغاية هي خدمة علم آخر وتارة لخدمة غرض.

فعلم الأصول علم انشأ لخدمة علم الفقه، أما علم النحو فلم ينشأ لخدمة علم آخر بل انشأ لعصمة للسان عن الخطأ في النطق. انشأ كما هو مروي عن الإمام (ع) عندما سمع القارئ يقرأ " إنما يخشى الله من عباده العلماء " قرأها يخشى اللهُ. استدعى الإمام أبو الأسود الدؤلي، قال : الكلمة ثلاثة: الاسم دل عل المسمى، إلى آخره.

وأسس هذا العلم لأجل تقويم اللسان عن الخطأ في النطق، وقد يستفاد منه في علم الفقه في الاستنباط، الاستفادة في علم آخر لا يعني انه أصبح من العلم الآخر، لان الذي يميز العلوم هو الغايات لا المواضيع ولا المحمولات. فإذا بحث الفقيه مسألة نحوية للاستفادة منها، لا يعني أن المسألة أصبحت فقهية. هذه ضابطة عامة، مثلا: آية الوضوء " بسم الله الرحمن الرحيم ﴿فان قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ " وردت " أرجلَكم، وأرجلِكم " بالفتح والكسر. من قال إنها دالة على وجوب الغسل " برؤوسكم وأرجلِكم " بالكسر. ماذا نفعل بالكسرة أليست معطوفة على رؤوسكم؟ قالوا: لا، بل هي للمجاورة، الأرجل جاورت الرأس فكسرت مثلها. هذا يستدعي البحث في مسألة أن الفصل بحرف بكلمة مثل الواو بهكذا كلمة هل يمنع حكم المجاورة أو لا؟. وحكم المجاورة مثل: " رأيت جُحر صبّ خربٍ" المفروض أن تكون خربا كونها نعتا لحجر خربا، ولكن للمجاورة كسرت. وفي " الحمدِ للهِ " كما في بعض القراآت دال مكسورة لمجاورتها بالام، فهل الفصل في مثل الواو يمنع المجاورة، فيحتاجون إلى هذه، لا بد أن يقولوا لا يمنع، وان كان الأصل هو المنع. هذه مسألة نحوية استفدت منها في استنباط فقهي. وأما " وأرجلَكم " قالوا إنها معطوفة على وجوهكم. هذا يحتاج إلى تحقيق مسألة نحوية أخرى وهي هل الجمل الاعتراضية في هكذا مورد " اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " وصارت " وامسحوا برؤوسكم " جملة اعتراضية هل يصح وجود الجمل الاعتراضية في هكذا مورد؟. لذلك ابن هشام قال: الإنصاف أن مقتضى القواعد هو المسح على القدمين وليس الغسل.

أيضا من يقول بوجوب المسح " بأرجلَكم " يقول إنها معطوفة على محل برؤوسكم بأكملها، لماذا؟ الإمام الصادق (ع) يُسأل: من أين علمنا أن المسح لبعض الرأس، قال لمكان الباء، كأنه قال: امسحوا بعض رؤوسكم، فمحلها محل مفعول به منصوب. هذا من علم النحو، ومؤسس علم النحو لم يلتفت إلى مسألة الاستنباط الفقهي، واستفادة الفقيه منها لا تعني أنها أصبحت من الفقه.

فإذن هذه المسائل خارجة عن علم الأصول وان كانت هذه القواعد التي ذكرناها وقعت في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي، وقد اضطرّ الأصولي لبحثها لكنه يبحثها كنحوي وليس كفقيه ولا كأصولي.

لقد أحسن السيد الخوئي (قده) حينما قال في درسه بحسب تقريرات تلميذه الشيخ الفياض في كتاب محاضرات في أصول الفقه ج 1 ص 13 يقول: ومن هنا يتضح أن مرتبة علم الأصول فوق مرتبة سائر العلوم ودون مرتبة الفقه، حد وسط بينهما، كما انه يظهر أن مبحث المشتق ومبحث الصحيح والأعم وبعض مباحث العام والخاص كمبحث وضع أدوات العموم، كلها خارجة عن مسائل علم الأصول لعدم توفر هذا الشرط فيها- أي أن يكون وقوع المسألة في الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى – إذ البحث عن وضع ألفاظ مفردة مادة كما في بعضها، وهيئة، ومن الواضح جدا انه لا تترتب آثار شرعية على وضعها فقط –مثلا: مادة الأمر موضوعة للوجوب، ولا الأثر الشرعي لها نعم هي تقع في طريق الاستنباط، وتحتاج إلى كبريات أخرى- هنا استفهام استنكاري - أيُ شرعي يترتب على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه المبدأ ؟!، وأي اثر مترتب على وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة؟!، وأي اثر على وضع أدوات العموم مثلا من دون أن تنضم إليها مسألة أصولية – مثل حجية الظهور وغير ذلك ؟! – فالصحيح هو أنها من مسائل علم اللغة، ولكن حيث أنها لم تُدوّن في علم اللغة دونت في علم الأصول.

انتهى كلام السيد الخوئي (قده) وهو كلام حسن فان أهل علم اللغة كان عليهم أن يبحثوا معنى هيئة الفعل هل هي دالة على الوجوب أو على الاستحباب؟ كما بحثوا دلالتها على الأمر، كهيئة افعل، اللغويون بحثوا دلالتها على الأمر، لكنهم لم يبحثوا دلالتها على أي أمر، الاستحباب أو الوجوب، قصَّروا في ذلك فاضطرَّ الأصولي لبحثها لكنها لا يعني أبدا أنها أصبحت من علم الأصول وإن أخذت حيزا كبيرا، سعة الحيز وضيقة لا قيمة له.

السيد الخوئي (قده) يقول: إن مباحث الألفاظ خارجة عن علم الأصول. وقلنا مرارا إن الاستخدام لا يعني أنها أصبحت جزءا من العلم، لان تمايز العلوم هو بالأغراض، مسألة واحدة قد يبحثها الأصولي واللغوي والنحوي وهذا لا يعني أنها أصبحت من مسائل هذا العلم. لأن الفقيه استخدمها في طول غيرها.

لكن هذا الكلام للسيد الخوئي (قده) ينافي ما ذكره في تقسيم قواعد علم الأصول، حيث يذكر في نفس التقريرات ص 6 يقول: ان هذه القواعد والمبادئ على أقسام: .... ثم قال: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ منها وهي مباحث الألفاظ جميعها،- باعتبارها احد أقسام علم الأصول- فان كبرى هذه المباحث وهي مسألة حجية الظهور محرزة ومفروغ عنها وثابتة من جهة بناء العقلاء والسيرة القطعية عليها –حيث البحث في الصغريات – ولم يختلف في حجية الكبرى اثنان ولم يقع البحث عنها في أي علم، من هنا قلنا إنها خارجة عن علم الأصول.

هنا إيرادات على السيد الخوئي (قده) في المسألة التي ذكرناها في الفرق بين المسألة والقاعدة، فالقضية نفسها مسألة قبل الإثبات وقاعدة بعده. والحاجة إلى الإثبات ليست الميزان في دخول القضية في علم او عدم دخوله، فلتكن حجة الظهور قاعدة لكن لا تحتاج إلى إثبات. هذا إيراد.

الإيراد الأول: السيد جعل في ص 6 مباحث الألفاظ من علم الأصول، وفي ص 13 نفاه عن علم الأصول. ونفيها من علم الأصول هو الصحيح نسلم به، لكن هنا تنافي في كلامه (قده) وهنا أحب أن اذكر عبارة للمرحوم جدي السيد محمد حسن فضل الله في كتابه الذي حققته، مباحث الحجة في الأصول العملية. يذكر في مقام التعليق على صاحب الكفاية عندما يقول: وهذا يلزم منه خروج مباحث الألفاظ بأكملها عن علم الأصول، وهو كما ترى. أي انه ليس بحاجة إلى جواب.

المرحوم جدي أجاب بتعليق لطيف على هذا الكلام: ولا نرى فيه شيئا، ما هو العيب الذي تراه هل ينتفي علم الأصول.