الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

39/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الرضاع.

     في الاستدلال على كفاية الخمس عشرة رضعة في نشر الحرمة.

     استعراض أقوال ابناء العامة.

     قبول روايات محمد بن سنان.

قلنا في الرضاع ان هناك اصلا لفظيا نرجع اليه عند الشك ونطرد الشروط المشكوكة، فان اشترطنا عددا معينا من الرضعات نشك في الشرط نطرد الشرط، وهذا يجري في كل مسائل المعاملات، وهنا مثلا: ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ..... ( [1] المفروض ان كل رضاع محرّم إلا ما خرج بدليل.[2]

نذكر هنا في روايات عدد الرضعات، كلاما لصاحب الجواهر (ره) يقول بعد ان يذكر كلمات الفقهاء:

بل اختلف كلماتهم في الأشهر من القولين، ففي المختلف والمنتصر وغاية المرام ونهاية السيد ان العشر هو قول الأكثر، وفي الروضة أنه قول المعظم، وفي التذكرة وزبدة البيان والمفاتيح أن المشهور هو الخمس عشرة، وعزاه في كنز العرفان إلى الأكثر، وفي كنز الفوائد إلى عامة المتأخرين، وفي المسالك إلى أكثرهم، قال: " وأكثر القدماء على القول بالعشر " وبهذا رفع بذلك التنافي بين كلامي العلامة في المختلف والتذكرة. ......

بل ربما ظهر من عبارتي الخلاف والتذكرة إجماع الإمامية على ذلك، خصوصا الأخيرة، قال فيها: " الرضاع المحرم ما حصل به أحد التقديرات الثلاثة: إما رضاع يوم وليلة، أو رضاع خمس عشرة رضعة، أو ما أنبت اللحم وشد العظم عند علماء الإمامية. - ثم قال -: يشترط توالي الرضعات من المرأة الواحدة، فلو تخلل بين العدد رضاع امرأة أخرى لم ينشر الحرمة، ولم يعتد برضاع شيء منهما ما لم يكمل رضاع إحداهما خمس عشرة رضعة متوالية، فلو رضع من إحداهما أربع عشرة رضعة ثم رضع مثلها من أخرى لم يعتد بذلك الرضاع عند علمائنا أجمع " وإن كان هو مع شهرة الخلاف المزبور كما ترى، لكن لا ريب في استفادة شهرة هذا القول أيضا بين القدماء.

ومع ذلك هو في غاية البعد عن أقوال العامة ورواياتهم [3] ، فإن للقائلين بالعدد منهم ثلاثة أقوال:

( أحدها ) الثلاث، وبه قال زيد بن ثابت وأبو ثور وابن المنذر وداود وأهل الظاهر، لمفهوم قوله صلى الله عليه وآله: " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ". [4]

( ثانيها ) الخمس، وهو المشهور بينهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وطاووس وعطا وسعيد بن جبير وعبد الله بن زبير وعبد الله بن مسعود وعائشة، لما رووه عنها أنها قالت: " كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخه بخمس معلومات، وأنه صلى الله عليه وآله توفي وهي مما تُقرأ في القرآن [5] " والحديث مشهور عندهم، أخرجه الستة إلا البخاري.

( وثالثها ) التحريم بالعشر كما حكي عن عائشة وحفصة وطائفة منهم، لما روي عن عائشة أنها قالت: " نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها " [6] ولما رواه عروة في حديث سهلة بنت سهيل " أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لها فيما بلغنا: أرضعيه عشرا تحرمي عليه " ولكن المعروف في هذه الرواية عندهم أنه قال لها: " أرضعيه خمسا " ولذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يراها خمس رضعات وإن كان كبيرا وبذلك تظهر قوة هذا القول باعتبار بعده عمن جعل الله الرشد في خلافهم.

ومع هذا ( أصحهما ) سندا ( أنه لا تحرم ) وأظهرهما دلالة، بل لا صحة في رواية العشر، ضرورة كون العمدة فيها الرواية الأولى، وفي طريقها محمد بن سنان الذي ضعفه الشيخ والنجاشي وابن الغضائري، وقال: إنه غال لا يلتفت إليه، بل روى الكشي فيه قدحا عظيما، بل عن ابن شاذان أنه من الكذابين المشهورين، على أنها مختلفة المتن، فاسدة الحصر، متروكة الظاهر، إذ هي على ما حضرني من نسخة الوافي مروية عن التهذيب عن ابن محبوب عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان عن حريز عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال : " لا يحرم من الرضاع إلا المجبورة، أو خادم أو ظئر قد رضع عشر رضعات يروي الصبي وينام " . [7]

فإذن ان روايات الدالة على كفاية العشرة مخدوشة سندا، لان افضلها رواية فيها محمد بن سنان وهو ضعيف ساقط كذاب، حيث ضعفه الشيخ والنجاشي، وعبّر عنه في بعض الروايات أنه من الكذابين، أما نحن فنعتبر الرواية مقبولة، وسندافع عن محمد بن سنان كما سنرى إن شاء الله. وثانيا ان نقل المتن بأشكال متعددة يوهن الرواية.


[1] سورة النساء، آية 23.
[2] هناك شروط للتحريم الشرط المشكوك يطرد بالإطلاق، فإذا لم يتم الطرد ننتقل إلى مرحلة الاصل العملي وهو الفساد وبقاء الحالة السابقة. هذا التدرج في كيفية الاستنباط موجود في كل المعاملات: اولا نحقق العنوان، ثانيا: الاصل اللفظي، ثم نبحث كل شرط على حدا، ان تمّ بها وإلا نطرده، فإذا لم يتم نصل إلى الاصل العملي وهو الفساد أو استصحاب عدم الاثر. ذكرنا ذلك في وسيلة المتفقهين كيفية التدرج في استنباط الاحكام.
[3] الترجيح بقوله في غاية البعد عن اقوال العامة لانه عند التعارض يؤخذ بما خالف القوم، واحد سباب التقية هو مصادرة السلاطين لحرية الطرف الاخر.
[4] ورد في سنن البيهقي عندهم. كان التحريم عندهم بمفهوم العدد، ونحن درسنا في الاصول ان العدد لا مفهوم له.
[5] هنا اشاره إلى ان جزء من القرآن قد اختفى من بين ايدينا عندهم وينسبونها الينا.
[6] سنن الدارقطني، ج4، ص179 و سنن ابن ماجة في باب رضاع الكبير.
[7] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج29، ص280 .