الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

37/05/01

بسم الله الرحمن الرحيم

العنوان: اثبات النسب.

القرائن اللبية واستكشاف الواقع البيولوجي للإنسان.

قاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر.

قبل أن نكمل قاعدة الولد للفراش نعود للقرائن اللبية التي تعطي اطمئنانا في ثبوت النسب والتي ذكرنا بعضها في القرائن النفسية كرد الفعل التلقائي، أما القرائن البدنية والبيولوجية من قبيل وزن الحليب والـ DNA حديثا،

هناك رواية على القرائن البدنية البيولوجية نذكرها: ح 3 - وعن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى عمر بامرأة قد تزوجها شيخ، فلما أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد فادعى بنوه أنها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على علي عليه السلام فقالت: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله إن لي حجة قال: هاتي حجتك، فدفعت إليه كتابا فقرأه، فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوجها ويوم واقعها وكيف كان جماعه لها، ردوا المرأة، فلما كان من الغد دعا بصبيان أتراب ودعا بالصبي معهم فقال لهم: العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكنوا صاح بهم، فقام الصبيان وقام الغلام فاتكى على راحتيه، فدعا به علي عليه السلام وورثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدا حدا، فقال عمر: كيف صنعت؟ فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه. ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد والذي قبله بإسناده عن محمد بن يعقوب. ورواه الصدوق بإسناده عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته قال: اتي عمر بامرأة ثم ذكر نحوه. [1]

ومن حيث الدلالة الرواية واضحة من الناحية البيولوجية، لذلك يقال ان نطفة الكبير تختلف عن نطفة الشاب، وحتى عند النساء نطفة الصبيّة في مقام الانجاب غير نطفة الكبيرة. هذا الفعل من الامام (ع) استكشاف علمي حديث، وهو من مقامات الامام (ع) الراقية.

من حيث السند: سندها فيه محمد بن علي ( ابن ابي سمينة الصيرفي ) وهذا لم تثبت وثاقته، لكنها مروية بطريق آخر رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن خالد قبل عن محمد بن يعقوب، ايضا يمران بمحمد بن علي. ورواه الصدوق بإسناده، عن عمرو بن ثابت، عن ابيه، عن سعد بن ظريف، عن الاصبغ بن نباتة. والذي أعتقده أن في المسألة تصحيفا من النساخ وان الراوي هو عمر بن ثابت.

وهو عمر بن ثابت بن هرم – يحتمل أن يكون هرمز – ابو المقدام: ثقة وان ضعفه الكثيرون شديد الرفض معلنا بذلك، ومع ذلك كان يقدّره أبناء العامة وفقهاؤهم. [2]

أما ابوه فهو هرم وقد تكون هرمز ابو المقدام، وكان بتريا وهو ممدوح عند العامة، ولم يرد طعن عليه عندنا.

وإسناد الصدوق إلى عمر بن ثابت: محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار (ثقة) والحسن بن متيه (ثقة) جميعا عن محمد بن الحسين بن ابي الخطاب عن الحكم بن مسكين (محل خلاف) عن عمر بن ثابت. السند مقبول.

والنتيجة من هذه الروايات الواردة: المجموع المكوّر من روايات استكشاف النسب بالواقع النفسي [3] كردّ الفعل التلقائي من الأم أو العبد، أو بالواقع البدني البيولوجي كفحص DNA واللبن، والنشاط البدني هو أن ما يوصل للاطمئنان فهو حجة على من اطمأن بذلك وغالبا ما يشترك البشر في ذلك، فهي ليست مجرد حدسيات بل نوع من القواعد العلمية. نعم قد يشذُّ البعض عن ذلك إما لعدم كفاية ذلك عنده لحصول الاطمئنان أو لكونه من أهل الوسواس أو غير ذلك من الاسباب.

نعود لقاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر في اثبات النسب.

ذكرنا امس الرواية الاولى وقلنا انها من اشهر الروايات عند العامة والخاصة.

وايضا: ح 4 - وعنه عن علي بن سالم، عن يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل وقع على وليدة حراما ثم اشتراها فادعى ابنها قال: فقال: لا يورث منه فان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا إلا رجل يدعى ابن وليدته. ورواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس مثله. وبإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام نحوه. وعنه عن جعفر وأبي شعيب، عن أبي جميلة، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. [4]

إذن الرواية من ناحية السند مشهورة ولا كلام في السند.

أما في الدلالة: " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، ذكرنا انه أُخذ على معاوية كيف نسب زياد ابن ابيه إلى ابيه ابي سفيان. وكلمة " الفراش " وكلمة " الحجر " يحتمل فيهما معنيان: الفراش يحتمل فيها المعنى اللغوي، وهذا حينئذ لا دلالة فيه على نفي ولد الزنى. ويحتمل فيها معنى الوطء الشرعي من باب الكناية، وهو الظاهر بقرينة مقابلته " وللعاهر الحجر " هذه القرينة تدل على ان المراد من الفراش هو خصوص الوطء الشرعي.

والمراد من " الحجر ": يمكن ان يكون " الرجم " وعليه الولد يكون الولد للزوج. واحتمال آخر للحجر أي يكون له لا شيء، الفقهاء كانوا يعبرون " كالحجر في جنب الانسان "، عبارة عن " اللغية ".

لكن الظاهر بقرينة العاهر يكون " الولد للفراش " أي الوطء الشرعي، ومهما فسرنا " الحجر " تكون النتيجة ان هذه قاعدة، فإذا شككنا ان امرأة ولدت ولدا وهي متزوجة وترتكب الحرام " لا ترد يد لامس "، عند الشك نقول ان " الولد للفراش ".

استيضاح من احد الطلبة: هذه القاعدة يلجأ اليها مباشرة قبل الاثباتات الاخرى كالفحص والبينة والقرائن؟

الجواب: تكون القاعدة عند الشك، واما ما ذكر فهو يؤدي إلى اطمئنان فترتفع القاعدة موضوعا.

الطالب: وهنا ايضا شك.

الجواب: في بقية الاثباتات هناك اطمئنان، البينة تقدم على القاعدة، وذكرنا في الهيكلية العامة ومنهجية الإستنباط، إذا شككنا ان البينة دليل أو لا؟، أو في الشخص الواحد دليل أو لا؟، وفي رد الفعل التلقائي دليل أو لا ؟

اولا: هل هناك دليل على المسائل بشخصها او لا؟ ان كانت فهو المقدّم.

ثانيا: ان لم يكن دليل نأتي إلى القواعد، الاصول اللفظية.

ثالثا: ان لم تكن تصل النوبة إلى الاصل العملي، الذي هو اصالة عدم الاثبات وعدم الحجية أي استصحاب عدم الاثبات.

نضرب مثالا على ذلك: إذا شككنا في شرط كم لو شككنا ان يكون الشاهد عادلا أو ذكرا او لا. ففي مقام الاستنباط وفي خصوص المسألة ننظر في هذا الشرط المحتمل، فإذا وجد هناك شيء خاص به يقدّم، فإ1ا لم يوجد نأتي إلى المرحلة الثانية الذي هو الاطلاقات اللفظية، من عموم أو اطلاق أو قواعد. فإذا لم يكن نأتي إلى الاصل العملي الذي هو عدم اثبات شيء لشيء، وعدم حجية شهادة احد.

هنا البينات مقدمة على كل الاصول اللفظية والعملية وذلك لانها امارة اما من باب التخصيص بناء على ما عند القدماء، او من باب الأظهرية الحكومة أو الورود او التخصيص، والسبب انها تبيّن موضوع القاعدة ، مثلا عندما نقول: "كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام "، ظاهر " حتى تعرف " العلم والمعرفة مطلقا. فإذا جاء خبر واحد ثقة، وبناء على ان خبر الواحد حجة حصل العلم تعبدا، فتوسع موضوع قاعدة اصالة الحليّة وتقدّم البيّتة على القاعدة من باب الحكومة. وهنا نفس الشيء، قاعدة " الولد للفراش " إما ان تأخذ على نحو القاعدة أي عند عدم العلم.

وإما ان تأخذ على نحو الموضوعية إذ هي نصّ من قبيل " اوفوا بالعقود " فكما للعقد موضوعية في ثبوت حكم الوفاء كذلك " للفراش " موضوعية في ثبوت حكم الولدية له. كما اخذها بعض فقهاء العامّة، فيكون الولد للزوج حتى لو قطعنا وعلمنا أن النطفة ليست منه، لذلك كما في المغني لابن قدامة: " لو كان الزوج في المشرق والزوجة في المغرب وجاء ولد لأكثر من ستة اشهر، الحق الولد بالزوج " انظر كتاب طفل الانبوب ص 55. وبرروا ذلك وفسروه بـ " جعلنا الرياح لواقح ".

فلكلامهم وجهة نظر بانه إذا اخذ " الولد للفراش " على نحو الموضوعية، فيكون الولد للزوج مطلقا سواء كانت النطفة منه ام لم تكن منه، وطبعا هي وجهة نظر خاطئة.

اما إذا أخذنا "الولد للفراش " انها مضروبة على نحو ضرب القاعدة، والقواعد تأتي عند الشك، ومع عدم الشك نعمل بالعلم. وبما ان " الولد للفراش " على نحو القاعدة تقدّم القرائن اللبينة لانها تؤدي إلى اطمئنان.

الترتيب الاستنباطي لدلائل إثبات النسب:

نبحث عن علم او اطمئنان بمختلف الاسباب ومنها القرائن اللبية.

فإن لم نجد فالبينة عند التنازع والتداعي، ويكفي خبر الواحد الثقة عند عدمه.

فان لم نجد نصل إلى ظهور الحال.

فان لم نجد نصل إلى القواعد العامة لاثبات النسب مثل قاعدة الفراش.

فإن لم نجد نصل إلى الاصل العملي وهو عدم ثبوت النسب.

بقي من الدلائل الاقرار والقرعة.

سؤال: اذا تعارض من وزن الحليب مع البيّنة ؟

الجواب: إذا ادت البيّنة إلى زعزعة الاطمئنان قدّمت البيّنة، لانها وردت في الروايات فإذا ثبتت علميا تحصَّل منها الاطمئنان، وكذلك الـ DNA إذا ثبت علميا يقدّم على البيّنة، والبيّنة تأتي عند الشك. بعبارة اخرى: البيّنة مقدّمة لانها خاصة وعلم معتبر وليس علما اطمئنانيا.

النتيجة لا تعارض بين البيّنة مع القرائن اللبية، فإما ان تسقط القرائن عن اقتضاء العلم ببركة البيّنة، فتقدّم البينة، وإلا فالعلم هو المقدّم كما بيّنا.

إذن العلم هو الاول بغض النظر عن سببه، إذا لم يوجد نصل إلى مرحلة البينات في التداعي، وخبر الواحد الثقة في غير التداعي. إذا لم يوجد نأتي للقواعد.

غدا ان شاء الله نكمل الاقرار والقرعة، وكلاهما يثبت النسب لكن متى يثبت النسب؟


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص207، أبواب كيفية الحكم، باب21، ح3، ط اسلامية.
[2] نقطة للبحث: اذا كان في ابناء العامة فقيه راو ثقة، ويمدحه ابناء العامة كثيرا بصدقه من قبيل محمد بن سيرين، وابن ابي المقدام، وسلمة بن كهيل، وعندنا لم يرد فيه طعن. هل تقبل روايته أو لا؟ قد نصل إلى قبول روايته وان لم يرد فيه توثيق عندنا بشرط ان لا يرد فيه طعن.
[3] وقول الرسول الاكرم : " وانما احكم بينكم بالايمان والبينات " لا مشكلة ان تكون هناك ايضا قرائن اخرى، و " لايمان والبينات " في حال عدم وجود قرائن تؤدي إلى اطمئنان، كما سنذكر في كتاب القضاء ان الحاكم له ان يحكم بعلمه.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص567، أبواب ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، باب8، ح4، ط اسلامية.