الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

37/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

العنوان: وسائل اثبات النسب.

البيّنة.

ادلة من قال باشتراط البلوغ في الشاهد

البحث السابق كان في اسباب الثبوت، بحثنا: ولد الزنى، ووطء الشبهة، طفل الانبوب، الاستنساخ وغيرها. أي ان ولد الزنى ولد اولا؟ ولد وطء الشبهة ولد او لا؟ إلى آخره.

اليوم نشرع بدراسة وسائل اثبات النسب، او فإذا كان الولد الشرعي ولد كيف نثبت انه ولد شرعي؟

أي ان هناك مرحلتين: مرحلة نظرية كبرويّة بان ولد الزنى هو ولد او لا؟ المرحلة الثانية: اثبات انه ولد زنى عندما نأتي للمصاديق والافراد، كيف نثبت انه ولد شرعي او نثبت عقدا شرعيا او عقدا منقطعا، إلى آخره.

ذكرنا امس الوسيلة الاولى لبن الأم، وذكرنا الرواية الضعيفة السند، وقلنا انه نعود للنظر في واقع الحال هل يثبت ذلك أم لا. وسنشرع اليوم ببحث الوسيلة الثانية، البيّنة وستنفعنا في كل الشهادات.

البيّنة: في مجمع البحرين: البيّن: الواضح، قال تعالى: ) بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ( [1] أي واضح.

ويبدو أن التاء هي تاء تأنيث للمبالغة، مثل: علاّمة.

واصطلاحا: شهادة اثنين على أمر بشروط وردت في كتاب الشهادات في الفقه.

والبينّة تظهر الحق وتوضحه، فتكون من باب تسميّة الشيء باسم مسببه، فشهادة الرجلين سبب لوضوح الحق.

ويشترط في الشاهدين أمور:

البلوغ: غير البالغ على قسمين: إما أن يكون مميزا، أو لا.

فإن لم يكن مميزا، فلا شك ولا ريب في عدم جواز شهادته، وهو أمر لا يحتاج إلى دليل، وقد جرت سيرة العقلاء على ذلك، فإنه بحكم البهائم من جهة عدم الادراك وعدم الشعور.

وإن كان مميزا فثلاثة اتجاهات: هناك من يقول بقبول شهادته مطلقا، وهناك من يقول بعدم شهادته، وهناك يفصّل.

استدل على عدم قبول شهادته بأمور منها: بقوله تعالى: ) وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا

 

رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ( [2] .

وذلك لعدم صدق الرجل على الصبي المميز، والاحكام تابعة لعناوينها. ولو قيل أنها وردت في كتابة الدين، فانه يجاب بإلغاء الخصوصية لوحدة المناط. [3]

العدالة: واستدل أيضا باعتبار العدالة في الشاهدين، فان الاتصاف بالعدالة يحتاج إلى مورد قابل لها، وهو المكلّف، والتكليف لا يكون إلا للبالغ كما ورد في نصوص رفع القلم.

واستدل ايضا بالروايات منها:

ما في الكافي ح 2 - محمد بن يعقوب، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يجوز شهادة الصبيان؟ قال، نعم في القتل يؤخذ بأول كلامه ولا يؤخذ بالثاني منه. [4]

من حيث السند: السند متين

ومن حيث الدلالة: نستفيد منها أمرين: نستفيد بالمفهوم مفهوم اللقب وإن كان اللقب لا مفهوم له. ومفهوم اللقب ليس حجّة، لا مفهوم له، ولا ظهور له في العرف، مثلا: إذا قلت " اكرم زيدا " لا يعني عدم وجوب اكرام الآخرين المسكوت عنهم. لكن إذا كان هناك قرائن اخرى كقرينة التحديد والتعريف يصبح له مفهوم. وهنا القرينة على المفهوم هي سؤال الامام (ع) عن جواز شهادة الصبي بشكل مطلق، قال: " نعم في القتل يؤخذ بأول كلامه ولا يؤخذ بالثاني منه ".

الرواية الثانية: ح 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة الصبي قال: فقال: لا، إلا في القتل يؤخذ بأول كلامه ولا يؤخذ بالثاني. [5]

من حيث السند الرواية صحيحة.

من حيث الدلالة: تدل بالمفهوم، وبمفهوم الحصر الذي يكاد ان يكون كالمنطوق وهو من اقوى المفاهيم.

الرواية الثالثة: ح 4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: في الصبي يشهد على الشهادة قال: إن عقله حين يدرك أنه حق جازت شهادته. [6]

من حيث السند: صحيحة

ومن حيث الدلالة: لا يبعد الاستدلال بها على عدم قيام شهادته وهو صغير. قد يقال: لو كانت شهادة الصغير قائمة لكان يؤخذ بنفس شهادته، لكن نأخذ بشهادته عندما يكبر. إذا فهمنا هذا المعنى تصبح الرواية دليلا على عدم شهادة الصبي المميّز.

اما إذا اخذنا بمعنى آخر وهو انه الكبير يمكن ان يشهد على أمر حضره حين كان صغير، حينئذ لا تصبح دليلا.

إذن في الرواية احتمالان: الاول: وهو ان الصغير يشهد ولا عبرة بشهادته، وعندما يكبر يستطيع ان يشهد على الشهادة، ولو كانت شهادته عبرة لأخذ بها وهو صغير.

والاحتمال الاخر وهو انه يستطيع حين يكبر ان يشهد بأمور رآها وهو صغير، بغض النظر عن أنها شهادة أو لا.

الرواية الرابعة: ح 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن شهادة الصبيان إذا أشهدوهم وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها. [7]

من حث السند: الرواية موثقة.

ومن حيث الدلالة: الاستدلال بها كسابقتها لكنها اوضح، الاحتمالان السابقان موجودان، وهل ان الامام (ع) في مقام بيان ان الصغار لا شهادة لهم الا بعد ان يكبروا فيشهدون على الشهادة؟ وهو الظاهر بقرينة قوله (ع) " إن شهادة الصبيان إذا اشهدوهم وهم صغار " فكأن المراد منها ان الناس اشهدوا الصغار كي يشهدوا عندما يكبروا ولو كانت شهادتهم صغارا كافية، لما كان داع للانتظار حين يكبرون. وإن كان الاحتمال الآخر ايضا لا يخلو من قوة. وهناك باب خاص بالشهادة على الشهادة في الفقه.

وإذا لم تقم هذه الأمور اللفظية دليلا على اعتبار البلوغ تصل النوبة للأصل، والاصل الاوّلي يقتضي عدم حجيّة قول أحد في حق الآخرين، ولا يسمع قول أحد في حق آخر إلا بدليل، ومع عدم الدليل فالأصل عدمه، من باب اصالة العدم، وقلنا ما يرجع إلى اصالة العدم يرجع إلى استصحاب العدم، إلا بعض القدماء الذي قال بان الاستصحاب امارة، ولا يكون اصلا.

وبالنتيجة: الأصل عدم حجية شهادة الصبي مميزا كان أم غيره.

اما الادلة على حجية شهادة الصبي المميّز غدا ان شاء الله نكمل.

 


[1] سورة الكهف، آية 15.
[2] سورة البقرة، آية 282.
[3] سؤال من أحد الطلبة: الآية وردت في الدين، وتم إلغاء الخصوصيّة فعممنا الحكم. ما الفرق بين مسألتنا واشتراط العدالة في شهود الطلاق، ولماذا لا يكون إلغاء خصوصية الطلاق فنشترط العدالة في كل الشهود؟ والجواب: إن الشاهدين في الطلاق شرط صحة مما يدل على ان المسألة فيه تعبديّة، وفي التعبديات نقتصر على القدر المتيقن لأن التعبديات توقيفية. أما في الدين والوصية وغيرهما فليس الشاهدان من شروط صحة الدين، فامكن التعميم.
[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج7، باب – شهادة الصبيان، ح2، ص389 .
[5] المصدر السابق ص289.
[6] المصدر السابق ص289.
[7] المصدر السابق، ص289.