الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

36/12/29

بسم الله الرحمن الرحيم

العنوان: محرمات النكاح.

تلخيص ما مرّ من بحث محرمات النكاح بعد هذا الانقطاع التعطيلي: قلنا ان صاحب الجواهر (ره) جمع اسباب التحريم منها:

النسب، الرضاع، المصاهرة، النظر، اللمس، الزنا، الإيقاب، الإفضاء، الكفر، وعدم الكفاءة، والرق، وتبعيض السبب، واستيفاء العدد، والإحصان، واللعان، وقذف الصماء والخرساء، والطلاق، والاعتداد، والاحرام، والتعظيم ( كزوجات النبي (ص) ).

ذكرنا هذه الاسباب بالتفصيل واحدة واحدة مع ذكر الادلة عليها، ثم شرعنا في ذكر ثبوت النسب، ومنها:

النكاح الصحيح، وطء الشبهة، بالزنا، انعقاد النطفة من غير وطء ( وهذا القسم يشمل زرق المني في رحم المرأة، ودخول المني إلى الرحم عن طريق المساحقة)، وطفل الانبوب، والإستنساخ. ثم القيافة، وفحص ال DNA. سنبحث هذه الامور وبالله المستعان.

انتهينا من بحث النكاح الصحيح، وقلنا : إن إثبات النسب به أمر ضروري فضلا عن كونه إجماعي. وكذلك وطء الشبهة قلنا انه اجماعا يثبت النسب [1] ، ثم ذكرنا الزنى وذهبنا إلى أن ولد الزنى ولد وله احكام الولدية إلا ما خرج بدليل وهو خصوص الارث، لذلك يحق لها ان تصافح ابنها من الزنى ولا يحق لها ان تتزوجه، وغير ذلك من احكام الولدية.

ثم شرعنا ببحث طفل الانبوب، وذكرنا ان الكلام فيه في أربعة أمور:

أصل الحليّة، أصل ثبوت النسب، من هو الأب، ومن هي الأم.

قلنا في أصل الحلية أنه جائز، وبعضهم ذهب إلى التحريم كما هو رأي السيد الكلبيكاني (ره). وبيّنا أن الأب هو صاحب المني، أما من هي الأم، فقد ذكرنا أن هناك أربعة احتمالات: إما ان تكون الحامل. وإما أن تكون هي صاحبة البويضة. وإما أن تتعدد الأم. وإما أن يكون لا أم له.

أما الاحتمال الاول وهي، أن الأم هي صاحبة الرحم فقد ذكرنا ما استدل على ذلك وذكرنا الادلة في ذلك. السيد الخوئي (ره) استدل بالآية، وبعضهم استدل بالروايات، وذكرنا أن الروايات على ما ذكروه من ان الأم هي صاحبة الرحم. ثم بينا أن الآيات التي عبرّت عن الأم بانها هي الحامل كما في قوله تعالى: ﴿ حملته أمه وهنا على وهن ﴾ [2] وغيرها، فهي بلحاظ انحصار الأم في ذلك الزمان في الحامل، والتعبير يكون بلحاظ الغالب أحيانا وهو تعبير صحيح، فما بالك بالمنحصر. وذكرنا في حلّ منعى : الولادة " في الآية ما كان ناتجا عن طريق تكويني حقيقي وليس مجرّد اعتبار، والآية: ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [3] وردت في مورد ان الإعتبار والالفاظ لا يؤدي إلى بنوة ونسب، خلافا للموجود في كثير من انحاء العالم ان التبني يجعل نسبا ولو لم يكن من صلبه. ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ نفي للتبني وغيره. فالآية تقول: ان البنوة لا بد من ان تكون عن تولد حقيقي وليس مجرد الفاظ ولقلقة لسان، نعم لا باس بتربية وتكفل اليتيم، وهذا غير التبني.

ثانيا: استدلوا بأن لفظ الأم انصراف عرفي إلى الحامل، وقلنا أن هذا الانصراف غير مستحكم [4] حتى يكون حجّة، وقلنا ان الانصراف إلى الحامل من باب انه الفرد الوحيد في ذلك الزمان، من قبيل انصراف كلمة " رجل " إلى آدم (ع) إذا قلت لك اكرم رجلا، ينصرف إلى آدم، لأنه وحده الموجود، وهذا لا يعنى أن آدم موضوع " للرجل " بل لانه الفرد الوحيد الموجود، فينصرف " الرجل " إلى خصوص آدم لعدم وجود غيره. وكذلك هنا انصراف الأم إلى الحامل ليس إلا لأنه الفرد الموجود في ذلك الزمان، وهو لا يزال الفرد الاعم الاغلب.

ثالثا من الادلة: ما ذكره بعض الاساطين من ان الحامل هي الأم، وكلمة " والدة " لا تصدق إلا على الحامل. وقلنا أن هذا غير سليم لأن الأب يسمى ايضا " والدا " بالرغم من انه ليس حاملا. وقلنا ان الولادة ليس معناها: ما كان نتاجا عن طريق الحمل. الولادة هي: ما كان نتاج حقيقي مقابل النتاج الاعتباري.

ثم ذكرنا الدليل على ان صاحبة النطفة هي الأم وذكرنا الادلّة ومن جملتها الآية نفسها تدل ان صاحبة النطفة هي الأم " ولدنهّن "، النطفة تؤدي إلى ولادة حقيقية تشملها كلمة ولادة. وثانيا: الروايات التي جعلتنا ندخل في مسألة: صفوان وابن ابي عمير، الروايات متعددة وتدل على أن صاحبة النطفة هي الأم. منها الرواية التي تذكر ان النطفتين تعتلجان في الرحم، فإذا كانت نطفة المرأة أغلب أو اسبق جاء الولد يشبه اخواله، وإذا كانت نطفة الرجل اغلب جاء الولد يشبه اعمامه. هذه الروايات بعض المعاصرين كتب كتابا حول هذا الموضوع، بان هذه الروايات ضعيفة سندا، ودلالة تخالف ما وصلت اليه التجارب الحديثة، فتكون الروايات ساقطة. لكن نحن نقول أن هذه الروايات توافق ما ذكر حديثا، ولعلّ ما وصلوا اليه يحدث اطمئنانا بالنفس ويوافق الروايات. وأما سندا ذكرنا ان بعض الروايات معتبرة، وبعضها واضح، ومن جملتها الرواية التي ذكر فيها زيد الزراد، الذي لم يوثق لكن لم يضعّف، وكان مهملا من هذه الناحية، هو الذي ادخلنا في بحث مسألة مشايخ الثقات " كل من روى عنه صفوان وابن ابي عمير فهو ثقة " القاعدة التي ذكرها الشيخ الطوسي (ره) في العدّة قال: " انهم عرفوا انهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة "، وذكرنا ما اشكل على هذه القاعدة من: اولا: ان هذه القاعدة حدسية. ثانيا: انهم رووا عن ضعاف. ثالثا: ان الشيخ الطوسي (ره) بنفسه نقض القاعدة قال: واول ما فيه انه مرسل " والمرسل هو ابن ابي عمير.

هذا الاشكالات ذكرناها وحاولنا ان نفندها، وذهبنا اخيرا ان كل ما ذكره من فنّد القاعدة وقال أنه روى عن الضعاف العشرة الذين ذكروا، ذكرناهم جميعا كعلى ابن ابي حمزة البطائني، وعلى ابن ابي حديد، ويونس بن ظبيان إلى آخره، ووهب بن وهب الكذاب. ووصلنا إلى نتيجة ان القاعد تامّة على خلاف الكثير من المتأخرين كما السيد الخوئي (ره) الذي لم يسلم بهذه القاعدة. قلنا ان ما ذكره الشيخ الطوسي (ره) صحيح وبناءً عليه وثقنا زيد الزراد، وايضا العشرات مثل: عنبسة بن مصعب وغيره، والسبيل إلى توثيقهم هو رواية صفوان أو ابن ابي عمير عنهم.

بعد الانتهاء من الادلة على ان الأم هي صاحبة البويضة وايدناه " بان الخال أحد الضجيعين " الذي يوحي بان الام هي صاحبة البويضة. وكذلك " اختاروا لنطفكم " هذه الروايات قلنا انها مؤيدات وليست ادلّة.

ثم انتقلنا إلى الدليل على أن الأم متعددة، والتعدد على نحوين: إما ان يكون تعدد نسبي، ويكون له أمَّان، صاحبة البويضة أم، والحامل أم، ولا مانع من ذلك. أو أن الأمَّين واحدة سببية وهي الرضاعية، والثانية نسبية وهي الأم.

ذكرنا حينها أن التعدد النسبي ممكن وخصوصا بإطلاق الآية: ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ ﴾ والولادة تشمل الأثنين، ما كان عن حمل وما كان عن بويضة، وكلاهما نتاج حقيقي. وذكرنا ان الروايات بناء على صحتها تكون مقيّدة لإطلاق هذه الآية. وقلنا حينها فليكن حينئذ نسبيّا كما يذهب اليه البعض من المعاصرين: ان الأم التي لها آثار نسبية من الارث وغير ذلك هي صاحبة البويضة، اما الحامل فلتكن مثل الأم الرضاعية، باعتبار اشتراكهما في التغذية. فحينئذ من باب الاولى التي حملت وغذّت تكون أمَّا اكثر من الأم التي أرضعت القليل من اللبن.

ذكرنا ان هذا من باب القياس، ولو كان من قياس الاولوية فلا مشكلة، وعهدتها على مدعي الاولوية والموافقة. أو أن يكون قياسا من باب العلّة الظاهرة المشتركة وهي التغذية.

لكن بيّنا ان التغذية ليست هي السبب في ترتب الآثار حتى في الرضاعة، وإن ظهر من بعض الروايات كأن يكون الرضاع يوما وليلة أو ما اشتد العظم وكسى اللحم. لكن المشهور اشتراط الالتقام فالتغذية ليست هي المناط في تحقق الإرضاع الشرعي المحرّم، وايضا اشترط الحياة في الأم لأنه لو ارتضع طفلا من امه الميتة إجماعا لا يحرم الرضاع حتى مع شد العظم وكسى اللحم. وذكرنا أيضا أن الرضاعة ما بعد الحولين لا تحرم حتى لو شدت العظم وكست اللحم، كذلك لزوم كون اللبن عن نكاح. إذن التغذية لا نستطيع أن نقول انها هي المدار في التحريم وصدق الرضاعية لها. وعليه هذا القياس بان العلّة هي التغذية ليس قياس عليّة ظاهرا. حتى الاولوية يبقى الشك فيها، فله اثر وللحليب اثر، هناك أمور نتبع العناوين فيها.

نعم لا باس حينئذ بالاحتياط وأن تلحق بالرضاعية، لكنه احتياط غير واجب، وفي مقام العمل لا باس بالاحتياط، كما ذكرنا في عقد النكاح بان الصيغة ليست شرطا ولكن في مقام العمل نذكرها اكثر من مرّة احتياطا.

ثم قلنا في الاحتمال الرابع أنه لا أم له، وهذا الاحتمال لا دليل عليه، كل انسان له أم إلا آدم (ع)، ولم يرد في الحيوان ان لا ام له إلا ناقة صالح وكبش أسماعيل (ع). بعبارة اخرى: ثبوت النسب مسألة عامة، واثبتنا النسب من هذه الطرق.

النتيجة: ان الأم هي صاحبة النطفة دون غيرها ولا بأس بالاحتياط استحبابا في الحامل.

هذا ملخص ما مضى، وغدا نكمل إن شاء الله تعالى في بعض المسائل الحديثة محل الابتلاء.


[1] تذكير: هناك مصطلحات متدرجة: تعبير بلا خلاف اقل الاجماعات، ثم يليه اتفاقا، ثم اجماعا، ثم تسالما، ثم بداهة، ثم ضرورة.
[2] لقمان/السورة31، الآية14.
[3] المجادلة/السورة58، الآية2.
[4] تذكير:. قلنا أن الانسباق إلى الذهن يكون: إما من التبادر للمعنى الحقيقي، او الانصراف إلى بعض افراد المعنى الحقيقي، الذي هو الانصراف. أو الظهور بمعنى وجود قرائن معيّنة