الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

36/08/14

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان:  إثبات النسب لطفل الانبوب، ما يمكن أن يكون دليلا على تعدد الأمهات.
  ما يمكن أن يكون دليلا على التعدد:
لقد ثبت بالدليل كون صاحبة البويضة أمَّاً كما سبق وبينَّاه، أما الحامل فلم يثبت كونها أماً بما ذكروه من الأدلة وناقشناه.
وقلنا أن نفس الاحتمال في تعدد الامهات ممكن وموجود وليس بممتنع شرعا ولا لغة، فالمرضعة أم، وورد في الروايات وان كان في مقام التنزيل ان القابلة يستحب ان تعطى شيئا فإنها بمنزلة الامهات، ويكره تزويجها.
 قلنا أنه ممكن ولكن الكلام في الدليل على ذلك. اثبتنا ان صاحبة البويضة أم ولكن هل هي الأم حصرا وهل هناك دليل على أن الحامل أيضا أم بالإضافة إلى صاحبة النطفة، ونكرر أن الكلام في الأم النسبية.            
لذا هنا احتمالان في الأم الحامل:
 الاول: أن تكون أماً نسبية لها كامل عنوان وأحكام الأم النسبية من إرث ونفقة وبرّ وجواز النظر وعدم جواز النكاح وغيرها.
  الثاني: أن تكون لها احكام الأم الرضاعية فتكون ملحقة بها.
 ولنبدأ بالاحتمال الثاني:
القول بأن للحامل أحكام الأم الرضاعية:
 يمكن أن يقال أن لها أحكام الأم الرضاعية حيث أن الرضاع المحرّم هو عشر رضعات متوالية، أو خمسة عشر أو رضاع يوم وليلة أو ما شدّ العظم وأنبت اللحم.
فإذا استطعنا تنقيح مناط التحريم بأنه ما شدّ العظم وأنبت اللحم ولو لم يكن عن رضاعة أو حتى ولا عن ولادة نستطيع حينئذ أن نقول: أن المناط [1] موجود في الأم الحامل حيث كل غذاء الجنين منها.
 ولكن أنى لنا بإثبات ذلك، بل الثابت هو العكس.
ولبيان ذلك فلننظر في شروط تحريم الرضاع وقد ذكروها في أبواب النكاح.
-اشتراط المباشرة من الثدي في الرضاع.
- واشتراط كون اللبن عن ولادة.
- واشتراط كون اللبن في الحولين.
 فإن تمّ أحد هذه الشروط يمكن القول أن التغذية ليست مناطا مستقلا كاملا، بل جزء مناط، فيكون المناط هو   التغذية زائد أمور أخرى.
اشتراط المباشرة من الثدي في الرضاع:
المشهور اشتراط المباشرة، فيشترط في التغذية التقام الطفل للثدي ومصّه اللبن، وذهب آخرون إلى كفاية التغذية من اللبن ولو من غير التقام في التحريم كان يوضع اللبن في إناء ويشربه الطفل.
استند المشهور إلى ظهور لفظ الرضاع في الإلتقام لغة، والأحكام تابعة لعناوينها، فنقتصر في التحريم عليه دون مجرد التغذية، كما استدل المشهور على رأيه بظهور بعض الروايات:
منها: ما في الوسائل ح 13صحيحة: محمد بن الحسن بإسناده عن العلا بن رزين عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن الرضاع؟ فقال: لا يحرّم من الرضاع إلا ما أرتضع من ثدي واحد سنة.ورواه الصدوق بإسناده، عن العلا. [2]
 من حيث السند، السند صحيح.
وفي مقام الدلالة: ظاهر الرواية أنها واردة في مقام بيان المدّة وليست ناظرة لمسألة الرضاع من الثدي، وإن احتمل خلاف ذلك. 
ومنها: ما في الوسائل ح 8، موثقة: محمد بن الحسن عن الحسن بن محمد بن سماعة (واقفي ثقة) عن الحسن بن حذيفة بن منصور (ضعفه الغضائري) عن عبيد بن زرارة عن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: - سألته عن الرضاع؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد حولين كاملين. ورواه الصدوق بإسناده عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام. [3]
من حيث السند: السند الاول عن الحسن بن محمد بن سماعة واقفي ثقة، وذكرنا احتمال كون الواقفة نوع من الحركة لحفظ الامام (ع) وحتى لم نقل بذلك أخذ بقول الواقفة. أما الحسن بن حذيفة بن منصور، حذيفة رجل ثقة لكن ابنه الحسن   ضعفه الغضائري، ولم يوثق، أما عبيد بن زرارة ثقة عين جليل. الكلام في السند الاول، لكن سند الصدوق يمكن الاخذ به. 
من حيث الدلالة: الاستدلال بظهور – من ثدي واحد – في المباشرة. لكن قد يقال: " في الحولين الكاملين " ان النظر ليس إلى الثدي وعدمه وإلى الرضاع وعدمه، بل النظر إلى الحولين لبيان المدّة، مع لحاظ أن الغالب ان المرأة هي التي ترضع وان كان شائعا ان يكون هناك مرضعة ولكن ليس الأغلب.   
  وذهب آخرون إلى كفاية التغذية؛ بعد أن ردّوا الأدلة السابقة على أنها من باب الأعم الأغلب.
 واستدلوا بمرسل الصدوق (ره) 4683: وقال أبو عبد الله عليه السلام : " وجور الصبي اللبن بمنزلة الرضاع ".[4]
 والوجور: الصب في الحلق. والوجور بمنزلة الرضاع كانه حكومة شرعية وسعت الرضاع إلى ما يشبه الوجور أي له احكام الرضاع، من قبيل الطواف صلاة.
 من ناحية السند: قلنا انه في اسناد الاحاديث أن قول: الصدوق (ره) وقال: ابو عبد الله (ع) يختلف عن قوله: عن ابي عبد الله (ع). قلنا أن هناك فرق بين اللفظين يحتاج إلى بحث، ففي قوله روي عن ابي عبد الله (ع) ان الصدوق لا يتحمّل مسؤولية الرواية، فتكون مرسلة. أما في قوله قال ابو عبد الله (ع) يعني أنه يتحمل مسؤولية الرواية بالرغم انها مرسلة.        
  كذلك بعض الروايات الأخرى التي تشعر بذلك إن لم تكن ظاهرة.
منها: ما في الوسائل ح 1: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن احمد بن يحي عن احمد بن محمد عن علي بن إسماعيل (ثقة) عن ظريف (ثقة) عن ثعلبة (ثقة وجيه) عن أبان (ثقة) عن ابن أبي يعفور (ثقة) قال: سألته عما يحرم من الرضاع ؟ قال: إذا رضع حتى يمتلي بطنه فان ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرم.[5]  
من حيث السند: الرواية معتبرة.
اما في مقام الدلالة: قوله " وذلك الذي يحرم "  كأنما المناط في التحريم هو إنبات اللحم والدم. الكلام في ظهور ذلك الذي يحرّم.
فهذا التعبير: هل هو ظاهر في الاستقلالية وكون التغذية مناطا كاملا؟ وهل هناك ظهور آخر في الحصر؟
 قد يقال: أن هناك ظهور بالحصر.
 يحتمل أن يكون " ذلك الذي يحرّم " جزء علّة ومناط وأن يكون مناطا مستقلا، والانصاف ان الظهور ثابت لوى الادلة الأخرى بوجود شروط أخرى.
أو انه هو المحرم حصرا أو غيره، والظاهر في الحصر سببه تعريف المسند والمسند إليه على نحو المنطلق زيد، أو زيد المنطلق.             
ومنها: ما في نفس المصدر ح 2: وبإسناده عن علي بن الحسن عن محمد بن الحسن عن محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا رواه عن أبي عبد الله (ع) قال : الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يتضلع ويتملى وينتهي نفسه. ورواه الكليني [6] عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير. [7]
وهذه الرواية من حيث الدلالة كسابقتها. أما من حيث السند فهي كما مرَّ معنا في مسألة مراسيل ابن أبي عمير. فإذا قلنا انه لايروي إلا عن ثقة فتكون هذه الرواية معتبرة، وإلا فهذا السند لا يكون معتبرا. ونحن ذهبنا إلى اعتبار هذه القاعدة. [8]
   اشتراط أن يكون الحليب عن ولادة:
لو ارتضع الطفل من لبن درّ من غير ولادة فلا يُحرِّم اتفاقا، واستدل عليه بروايات:
   منها : الوسائل  14 ب 9 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح 1: محمد بن يعقوب عن حميد بن زياد ( ثقة واقفي) عن الحسن بن محمد عن احمد بن الحسن الميثمي (ثقة عين) عن يونس بن يعقوب (ثقة رجع عن الواقفة) عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية وغلاما من ذلك اللبن؛ هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال لا. رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن ابي عمير عن يونس بن يعقوب مثله.[9]
من حيث السند: السند الاول محمد بن يعقوب عن حميد بن زياد واقفي عين ثقة، عن الحسن بن محمد عن احمد بن الحسن الميثمي لعلّه حفيد ميثم التمار ثقة عين، عن يونس بن يعقوب ثقة رجع عن الواقفة.
ومن حيث الدلالة: الدلالة واضحة على عدم الحرمة. وهذه الدلالة تدل على أن التغذية وحدها لا تكفي وانها ليس هي المناط والا لم يكن هناك داع لهذه الشروط.  


  اشتراط كون الرضاع قبل الحولين:
 استدل بالآيات والروايات: في قوله تعالى: ) حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ( [10].
 وقد مرّت بعض الروايات التي استدل بها على ذلك في استدلال المشهور على اشتراط الإلتقام من الثدي، كذلك بقوله (ص) : - لا رضاع بعد فطام –
ح 2 : محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا رضاع بعد فطام. [11]
 ايضا هذا يدل على انه لو كانت التغذية كافية لم يذكر الاعوام، نعم هي شيء اساسي لكنها ليست مناطا مستقلا، بل جزء مناط. 
  اشتراط كون المرضعة حيّة:
  ادعي الإجماع عليه كما ادعي إنصراف أدلة الرضاعة إلى خصوص الحية فلا تشمل الميّتة وإن كانت تلك الأدلة مطلقة.
 كذلك استدل له بالأصل، أي أصالة عدم ترتب الأثر، أي إذا رضع طفل من ميتة هل ينشر هذا الرضاع التحريم؟.
والجواب أن الأصل عدم نشر التحريم، أي أصل عدم ترتب أثر الرضاع، وهو أصل عملي يأتي في الترتيب الاستنباطي العمودي بعد الأصل اللفظي.
 وفي كل هذه الأدلة نظر حيث أن الإجماع مدركي. والانصراف غير متحقق وعهدته على مدّعيه، فيتم إطلاق الروايات ولا تصل النوبة إلى أصالة عدم ترتب الأثر. ولكن بناء على المشهور نستنتج أن مجرد حصول التغذية لا يكفي في التحريم، فلا تثبت للحامل أحكام الأم الرضاعية.
   النتيجة:
  أن اشتراط كون اللبن عن ولادة، واشتراط كونه في الحولين واشتراط الحياة واشتراط المباشرة بالالتقام – بناء عليها -.
كل هذه الشروط تؤدي إلى أن مجرد حصول التغذية كيفما اتفق لا ينشر التحريم نظرا إلى عدم استظهار أن المناط في التحريم هو مجرد حصول التغذية بعد كل هذه الشروط.
وعليه لا تكون الحامل أما نسبية ولا لها أحكام الأم الرضاعية. نعم لا باس بالاحتياط في ذلك، فيترك نكاح الرضيع لها ولا تنكشف أمامه بعد بلوغه، وغير ذلك من الأحكام في الامور الإلزامية، ولا بأس في برها وغير ذلك.
 النتيجة: أنه ليس هناك دليل على أنها أم رضاعية، فنبقى حينئذ على أن الأم هي صاحبة النطفة.
دليل آخر على التعدد:
 بالنسبة إلى الأم النسبية قد يقال أن هناك دليل على ذلك بالإضافة إلى صاحبة النطفة.     
وهو أطلاق الآية: ) إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً ( ـ [12]  وبعد تفسير الولادة بالعلاقة الحقيقية بين الأم والطفل دون العلاقة الاعتبارية اللفظية، هذا الاطلاق يشمل كلتا الوالدتين: صاحبة النطفة وصاحبة الرحم. وبهذا تتعدد الأمهات ويكون لطفل الانبوب أمَّان، لكل منهما تمام أحكام الأم النسبية من أرث ونفقة وحرمة نكاح ومحارم ووجوب برّ وحضانة وغير ذلك.
ويمكن أن يشكل عليه بعدّة إشكالات:
   منها: أن لفظ " ولدنهم " في الآية منصرف إلى خصوص الحامل لكثرة الوجود والاستعمال.
والجواب: أن هذا الانصراف يزول بعد ملاحظة الروايات التي ذكرناها آنفا والتي تدل على أن صاحبة النطفة هي أم، وكذلك بعد الالتفات إلى معنى التولد والولديَّة من أنه هو الناتج الحقيقي.
 هذا الدليل على التعدد أحد الادلّة المهمّة. فإذا قلنا أن الولادة ما كان عن ناتج حقيقي فإطلاقه يشملهما معاً: صاحبة البويضة والحامل، فليكن كلاهما أماً بإطلاق الآية.
 إن شاء الله غدا نكمل البحث.


[1]تذكير:. الملاك هو ما يدور الحكم وجودا وعدما مداره في مقام الثبوت، والمناط هو ما يدور الحكم وجودا وعدما مداره في مقام الاثبات. ونحن لا ندرك الملاكات  غالبا " إن دين الله لا يصاب بالعقول "، نعم يمكن ادراك المناطات. 
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص286، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب2، ح13، ط الاسلامية.
[3]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص292، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب5، ح8، ط الاسلامية.
[4]من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص479، رقم4683.
[5]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص290، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب4، ح1، ط الاسلامية.
[6]الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص445، باب نوادر من الرضاع، ح7.
[7]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص290، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب4، ح2، ط الاسلامية.
[8]ايضا يقول محمد بن ابي عمير عن بعض اصحابنا رواه عن ابي عبد الله (ع)، فلو قال روي عن ابي عبد الله (ع) لكان ارسالا آخر، فتسقط الرواية عن الحجية حينئذ للإرسال الثاني كما ورد في رواية " الكُر " حين قال الشيخ ان اول ما فيه انه مرسل، قلنا في حينها أن فيها إرسالين.      .
[9]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص302، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب9، ح1، ط الاسلامية.
[10]لقمان/سوره31، آیه14.
[11]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص291، أبواب ما يحرم بالرضاع، ب5، ح2، ط الاسلامية.
[12]مجادله/سوره58، آیه2.