الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

36/08/01

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: اثبات نسب طفل الانبوب، هل الأم هي الحامل أو صاحبة البويضة؟
-الاستدلال بأصالة عدم النقل على أن أم طفل الانبوب هي صاحبة البويضة.
بعد أن ذكرنا ما يمكن أن يستدل به على أصالة عدم النقل من العرف العام إلى العرف الخاص التي يلزمها ثبوت المعنى الخاص للعام للغة، هو أما سيرة العقلاء الأمارة، وإما " لا تنقض اليقين بالشك " بحيث تشملها من باب استصحاب القهقرى، أو بثبوت المعنى اللغوي المجهول الماضي المشكوك ونجرّ هذا المعنى اللغوي إلى المعنى الخاص الحالي. وذكرنا أمس أن هذه الادلة غير تامّة.
أما أن هناك سيرة عقلائية من العرف العام إلى العرف الخاص، قلنا انه غير تام، نعم هناك سيرة [1] في أصالة عدم النقل المتداولة وهي من الماضي إلى الحاضر في نفس العرف. اما من العرف اللغوي إلى العرف الخاص فلا يوجد بناء عقلائي عليه، لان العقلاء انما يجرون بعض السنن لحاجات ودواع، إذا انتفت هذه الحاجات لا معنى لان يأسسوا شيئا ونلتزم به.
 بعبارة اخرى: فرق بين الاصالتين، ففي مسألة النقل من عرف إلى عرف لا نجد حاجة، بخلاف مسألة عدم النقل المتداولة التي توجد فيها الحاجة للنقل ولولاها لما فهمنا الكثير من النصوص القديمة.
اما الدليل الثاني: الروايات " لا تنقض اليقين بالشك " قلنا انه لا يشمل استصحاب القهقرى ولا الاستصحاب الاستقبالي، إذن ينصرف عن أصالة عدم النقل إذا كان يرجع إلى استصحاب القهقرى، فلا دليل عليها من الروايات، فاستصحاب القهقرى غير تام.
واما ما يمكن ان يقال من استصحاب بقاء المعنى، وعبّر بعضهم عنه باستصحاب الثبوت، استصحاب العدم الازلي للمعنى اللغوي الثابت المجهول إلى المعنى الحالي، قلنا أنه أصل مثبت.    
إذن لا دليل على اصالة عدم النقل من عرف عام إلى عرف خاص.
إشكال في أصل الاستدلال والاجابة عليه:
 قد يقال في هذه المسألة أن الاستدلال على أن طفل الأنبوب أمه هي صاحبة البويضة. أنكم استدللتم بآية " الامشاج " واستدللتم بالروايات " تعتلج النطفتان في الرحم "، واستدللتم بلفظ " الأم " بأصالة عدم النقل بأن هذا اللفظ موجود عند علماء الاحياء والاطباء بمعنى صاحبة البويضة، فليكن كذلك الاصل عدم نقله منه من اللغة اليه، أي باتحاد الاصطلاحين. كل هذه الاستدلالات لا معنى لها لكون لفظ الأم قد وضع في زمن لا وجود للنطفة في ذهن الواضع.              
  بعبارة اخرى: إن هناك إشكالا على أصل الاستدلال بالعرف العام لإثبات أن المعنى الموضوع له لفظ الأم هو صاحبة البويضة ببيان أن هذا المعنى حديث جديد، فلا يكون الوضع ناظرا إليه.
  والجواب: هذا صحيح، لان أهل اللغة عندما وضعوا لفظ " أم "لم يلتفتوا لا إلى صاحبة بويضة ولا إلى غيرها، لم يخطر ببالهم كل هذه الامور. ومعنى الأم لغة موضوع لما هو الأساس والعماد، وطبقه البيولوجيون والناس على صاحبة النطفة، لأن أثر النطفة التكويني أساسي في تكون الجنين أكثر من الحامل بكثير، بل يمكن أن يقال إنها هي الأساس، والحامل مجرد تأثير في الصفات العرضية.[2]
  قد يقال: ذكرتم مرارا إن العرف مرجع في تحديد المفاهيم لا المصاديق، فيكون هذا من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، والمرجع في المصاديق هو المكلّف نفسه. أما في المفهوم فالعرف هو المرجع.
 ومعنى المرجع هو كل من له شأن في الوضع فالعرف هو الذي وضع الالفاظ فيكون هو المرجع. والشارع هو الذي جعل الاحكام فيكون هو المرجع في الامور الشرعية. اما في المصاديق فليست مجعولة من الشارع ولا العرف، لذلك هي من شأن المكلّف.  فلا يكون تطبيق عرف البيولوجيين حجة علينا فلا معنى للرجوع اليهم.
  فانه يقال: هذا صحيح، والمرجعية في تطبيق المفاهيم العرفية على المصاديق هي نفس المكلّف،- وقد ذكرنا كيفية إثبات المصاديق في كتاب منهجية الاستنباط -. ولهذا كان تحديد موضوعات الأحكام هي بيد العرف أو المخترعات الشرعية، إلا في حالة واحدة وهي إذا كان موضوع الحكم هو مصداق المكلَف، من قبيل الضرر الموجب للإفطار تحديده على نفس المكلّف. نعم حكم العرف غالبا ما يؤدي إلى إطمئنان المكلّف، فيكون هذا الاطمئنان هو الحجة.
إذن تطبيق المفهوم على المصداق شأن المكلف، هنا الأم هي عماد واساس الشيء، العرف الخاص طبّقه على صاحبة البويضة، وبعضهم قد يطبقها على الحامل.
 فنقول حينئذ: أن دور العلوم التطبيقية أو العرف ينحصر في المساعدة على بيان المصداق ليس إلا، كي لا يخطئ المكلّف ويطبق لفظ الأم على غير مصداقه الحقيقي، كما لو اشتبه وطبق على الحامل فقط، فانه عند التأمل وبمساعدة العلوم التطبيقية نجد أنه اشتباه في التطبيق.
 إلى هنا نكون قد انتهينا من مسألة أصالة عدم النقل والنتيجة: الاستدلال باللغة وذلك بتطبيق الأم على خصوص صاحبة البويضة، فهذا شأن المكلف إذا حصل له اطمئنان فالحمد لله، وإلا فلا دليل لا بأصالة عدم النقل، ولا بأصالة الثبات، ولا عدم التغيير، ولا بأصالة العدم الازلي، ولا عدم الحادث، كل هذه الأصالات لا تنطبق هنا وغير تامة.
والخلاصة: إن الادلة على كون الأم هي صاحبة البويضة ثلاثة:
-الآية القرآنية " من نطفة امشاج " إن تمت دلالتها.
-الروايات: " تعتلج النطفتان في الرحم ".
- تطبيق الأم عليها، وهذا يدور مدار الاطمئنان وعدمه.
 يبقى المؤيدات وقد تكون دليلا وهي الروايات المؤيدة لذلك، من جملتها روايات : أن الخال احد الضجيعين " و " إن العرق دساس ".
  غدا إن شاء الله نكمل.


[1] للتذكير: هناك حكم عقلاء ومسلك عقلاء. الحكم من قبيل العدل حسن والظلم قبيح، حكم عقلي في كل الامكنة والازمنة ولا علاقة له بالحاجات والدواعي. اما السيرة العقلائية التي هي مسلك العقلاء من قبيل العمل بخبر الواحد، والشهرة. هذه السيرة انما تجري لانها ناشئة عن حاجة وهذه الحاجة نسدها بشيء اسمه العمل بخبر الواحد.
[2]  وللتوضيح الفكرة،. من قبيل كلمة " سلاح " المعروفة سابقا للسيف والترس، اصبحت اليوم تستعمل للصواريخ والطائرات وغيرها، قد يقال: هل تغيّر معنى السلاح؟ الجواب: لا. لان السلاح لغة هو كل ما يدافع به المرء عن نفسه، المعنى الموضوع له طبق سابقا على السيف والترس وحتى على العصي، والآن طبق على السلاح الحالي المتطور مع ملاحظة عدم اشتراك الطائرات مع السيوف في شيء. نقول: هذا تطبيق ومصاديق وليس اصل المفهوم. والموضوع له هو مفهوم السلاح. ومن قبل ايضا كلمة " نور " عندما نقول : " لله نور السماوات والارض " المقصود من النور ليس هذه الذرات الضوئية، الموضوع له لفظ النور هو: البيّن في نفسه المبيّن لغيره، وطبق على ما نراه ماديا  كمصداق وليس نفس المعنى الموضوع له.