الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

35/07/15

بسم الله الرحمن الرحیم

  العنوان: النظر إلى الأجنبي

-مسألة في حكم النظر إلى المماثل.   
  أما النصوص الواردة نذكر منها: ما في الوسائل: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس عن حمّاد، عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال: لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه. [1]
  من حيث السند: الرواية صحيحة سندا.
 من حيث الدلالة: هي واضحة دلالة في حرمة النظر. وقد يدّعى الاطلاق اللفظي في هذه الرواية فيشمل المشكوكات.
 نقول: لكن مع التأمل نجد ان هذه الرواية وبضميمة الروايات الاخرى التي سنقرأها ليست ظاهرة في الاطلاق بل هي ظاهرة في أصل قباحة هذا الفعل، وليست ناظرة للحالات حتى نقول بالإطلاق، وقلنا ان مقدمات الاطلاق أن يكون في مقام بيان وأمكن ان يبيّن ولم يبيّن. المرحلة الأولى في الاطلاق صدق العنوان ثم تأتي هذه الشروط الثلاثة. فيجب ان يكون في مقام بيان، وهذه المقدمة الاولى أي ان يكون في مقام البيان تحرز إما وجدانا أو ظهورا بقرائن حالية أو مقالية، وإما بالأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام بيان، والأصل في الشارع أن يكون في مقام بيان لأن شأنه ذلك.
 هنا يمكن القول انه في مقام بيان أصل حكم الموضوع وهو أصل قباحة الفعل فيكون تحريم النظر على نحو الإهمال، فيبيّن أصل الحرمة من دون نظر إلى الأفراد والحالات فلا يكون هناك اطلاق، وذلك بملاحظة الروايات الأخرى التي تجعل النظر إلى عورة الكافر كالنظر إلى عورة الحمار، روايات صحيحة معتبرة وإن اعرض عنها بعض الاصحاب، لكن استفدنا منها أن المنظور اليه إذا كان محترما يحرم النظر إلى عورته، اما إذا اسقط احترامه فلا يحرم النظر، كما هو ليس ببعيد أن يكون حكم العقلاء كذلك وديدنهم على هذا.
  وعلى هذا تكون الرواية مقرّة لما عند العقلاء ومرشدة إليه من قبح انتهاك حرمات الآخرين، نعم تدخل الشارع في بيان أن النظر من انتهاك الحرمات، وأن النظر هو انتهاك لحرمة المنظور إليه، فتدور الحرمة وجودا وعدا مداره. وعليه، في الحاجات الضرورية والعقلائية نسقط هذه الحرمة لأنه لا يعدّ انتهاكا عرفا، وأما شرعا فالرواية لا إطلاق فيها من هذه الجهة، بل هي في مقام بيان قبح هذه المسألة من قبيل " الزاني لا ينكح إلا زانية " السيد الخوئي (ره) له بيان لهذه الآية بانها إشارة إلى قبح هذا الفعل دون النظر إلى الافراد، أي ان فاقد القيم هو الذي يرتكب هذا الفعل الشنيع، وهنا كذلك فاقد القيم هو الذي ينظر إلى العورات، وهو نوع من الاستهتار.   
  الحديث الثاني: حديث المناهي من نفس المصدر: محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق (ع) عن النبي (ص) في حديث المناهي قال: إذا اغتسل أحدكم في فضاء الأرض فليحاذر على عورته. وقال: لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر، ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخية المسلم، وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمدا أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج من هذه الدنيا حتى يفضحه الله إلا أن يتوب. [2]
  من حيث السند: الرواية ضعيفة سندا.
  ومن حيث الدلالة، فهي تؤيد عدم دلالة الرواية الأولى على وجود إطلاق لنقطتين في الرواية:
  فقد أمر ان لا يدخل أحد الاصحاب الحمام إلا بمئزر، أي أن لا يفعل ما يفعله حثالة البشر. كذلك تقييد النظر بالتعمّد، وكذلك بتتبع عورات المؤمنين. هذه النقاط توهن دلالة الحديث على الإطلاق فلا يشمل الحالات المشكوكة.
 طرح نظرية في الاستفادة من الروايات الساقطة عن الاعتبار:
 هل نستطيع الاستفادة من الروايات الساقطة عن الاعتبار؟
 الروايات على أربعة اقسم: أولا: قطعية الصدور. ثانيا: الروايات المعتبرة. ثالثا: روايات يحتمل صدورها ولكنها ضعيفة السند ولا دليل على اعتبارها فتسقط عن الاعتبار. رابعا: روايات نقطع بكذبها وعدم صدورها كالروايات التي تخالف كتاب الله عز وجل فالإمام (ع) يقول: " ما خالف قول ربنا لم نقله "، أو تخالف العقل، أو نقطع بعدم اعتبارها.
  ثم إن الروايات المحتملة الصدور وإن كانت غير معتبرة، لكن يمكن الاستفادة منها بثلاثة انحاء:
  الأول: تأييد الأدلة الأخرى، فهي وإن لم تنهض بكونها دليلا لكنها تكون مؤيدا لاحتمال صدورها.
  الثاني: ضمّ بعضها إلى بعض قد يؤدي إلى اطمئنان بالصدور وهو الحجة، كما يقول السيد الصدر (قده) بحساب الاحتمالات.
  الثالث: إنه يمكن للرواية أن تعطي فكرة نستفيد منها في مقام الاستنباط، استفادة من المضمون سواء كانت هذه الفكرة لغوية أو اجتماعية أو حال الناس أو غير ذلك. وهذه الفائدة تشترك فيها من القسم الرابع وهو المقطوع عدم اعتبارها. 
  توضيح ذلك: الراوي عندما يخبر وإن كان كاذبا، إلا أن كذبه هو في النقل أي المضمون كمنقول، أما في غير النقل فهو إنسان عادي ابن العرف فينقل ما كان في زمنه من حال أو لغة أو غير ذلك.
 ولنضرب مثالا على ذلك: إذا جاءني رجل كذاب واخبرني عن مجيء زيد، لا يستطيع أن يقول: جاءت زيد، إلا أن لا يكون من أبناء اللغة وكان يلحن فيها. بعبارة أخرى: الراوي الكاذب يكذب في نقله ويصدق في لسانه فلا يلحن. وبعبارة ثانية: الخبر عبارة عن أحكام وقصص وتركيبات من مواد ومفردات، الكذب والصدق يكون في النقل أي في الأحكام والصور والقصص والتركيبات، أما المفردات والمواد المستعملة فكذب الخر لا يشملها. فإذن نستطيع ان نستفيد من الرواية المنقولة الضعيفة جدا أو الكاذبة قطعا، نستفيد بعض الأمور اللغوية.    
 وكمثال آخر استكشاف وجود بعض المفاهيم مثل مني المرأة: إن روايات وجود مني للمرأة متعارضة، لكن الروايات التي ورد فيها ذكر مني المرأة كافية لاثبات وجود المفهوم في اللغة العربية وإن كانت الرواية ضعيفة. ذلك إن الضعف في الرواية ناشئ من كذب الناقل، أما كيفية التعبير فصحيحة، فيتكلم بلسان عربي، فلو ان سند الرواية عن يزيد بن معاوية لا يكون مضمونها حجة ومعتبرا للاحتمال القوي بكذبه، أي عدم مطابقة المضمون للواقع، لكن المضمون قد عبرّ يزيد بن معاوية عنه بلغة عربية فصيحة، فهو لا يخطئ من هذه الناحية. فنطمئن بوجود هذه المفردات في اللغة العربية.
  وإذا أردنا تطبيق هذه النظرية على مسألة منيّ المرأة نقول: قد وردت كلمة " مني " للمرأة في رواية " حتى امنَت وامذَيتُ " فهي تدل على ثبوت المني للمرأة لغة، أي أن مفهوم المني قد ثبت للمرأة في العرف اللغوي، وهذه الاستفادة تامة من الرواية سواء كانت معتبرة أم غير معتبرة. نعم لا ندري ما هو؟ هل هو مطلق السائل الخارج أو خصوص ما يخرج عند الإثارة؟ أو خصوص ما يخرج عند الذروة؟ أو ما يخرج عند الاثارة ويشبه مني الرجل؟
 فتصبح الشبهة مفهومية، حينئذ تندرج كما ذكرنا في منهجية الاستنباط: نطرق باب الشرع أولا، فإن لم نجد فباب العرف، فإن لم نجد فباب اللغة، فإن لم نجد فنأخذ بالقدر المتيقن. والقدر المتيقن هنا موجود في مني المرأة ولذلك تثبت الأحكام لخصوصه وهو ما خرج في حال الاثارة والذروة واشبه مني الرجل، فنحكم بأحكام المني من نجاسة وثبوت الجنابة والغسل إلى آخره، والباقي يرجع فيه للأصول العملية.[3]
 مثال آخر: في الرواية الضعيفة الكذاب يستعمل مفردات أهل زمانه اللغوية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغير ذلك، ويكذب بأن يجعلها مادة تركيبها تركيبا كاذبا. فلا يقول: خرج جيش معاوية وقصف الكوفة بالطيران والمدفعية مثلا، بل يستعمل في مادة كذبه ما كان متداولا في ذلك الزمن كالسهام والنبال والمنجنيق وغير ذلك.
  ونعود لتطبيق ما ذكرناه في نقل الحالة في مسألتنا فنقول: يبدو أن حالة كثير من الناس في ذلك الزمن هو الاستهتار والعبثية، فينظر بعضهم إلى عورة بعض بلا حياء ولا خجل، فلاحظ حديث المناهي وهذه فقرات منه:
-" لا يدخل أحدكم الحمام بلا مئزر " (أي الوزرة التي تغطي العورة) حيث نستفيد منها أن دخول الحمام أو كونهم في الحمام عراة كان أمرا موجودا والاستهتار والحثالة كثيرة. فالحديث ينقل حالة كانت موجودة، وضعف الحديث هو بنقل الحكم بالحرمة فلا يعتبر ذلك، لكن استخدام المفردات الاجتماعية عند الناس أمر لا مصلحة فيه للكذب حتى تدفعه للكذب، بل من الصعب استخدام أدوات ومواد كاذبة.
- " من تأمل عورة أخيه " مما يعني أن التأمل كانت حالة منتشرة والكلام فيها عين الكلام في الفقرة الأولى.
 أيضا لاحظ الرواية الرابعة: " من دخل الحمام فغضّ النظر عن عورة أخيه آمنه الله من الحميم يوم القيامة " وهذا يعني أن الحالة كانت مستشرية خصوصا في الحمام.
 نقول أولا هذه النظرية بعد التأمل هي ثابتة؟ هي نظرية جديدة وغير مبحوثة ولكن اعتقد اننا نستطيع ان نستفيد منها في مقام الاستنباط. والنظرية هي إمكان الاستفادة من الروايات الضعيفة الساقطة عن الاعتبار.


[1]  وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي،ج1، ص211،باب وجوب ستر العورة وتحريم النظر ...باب1،ح1،ط الاسلامية.
[2]  وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي،ج1، ص211،باب وجوب ستر العورة وتحريم النظر..باب1،ح2،ط الاسلامية.
[3]  هناك من قال انه طبيا لا مني للمرأة: الجواب: البويضة عند المرأة تقابل الحيوان المنوي عند الرجل، وهي اكتشاف حديث لا يرى بالعين المجردة. ومن الطبيعي أن الجواب أن المرأة ليس لها مني يقابل مني الرجل، ونقطع بان البويضة ليست منيا لأنها ليست سائلا، ولذا فسؤال الأطباء ليس في محله لان المسألة مرتبطة بالمفهوم والطب والطبيب لا دخالة له في تحديد مفهوم المني، تحديد المفهوم هو من اختصاص اهل اللغة، فإذا وجد هذا المفهوم تنطبق عليه الاحكام لان الاحكام تتبع عناوينها اللغوية نعم قد يعينني الأطباء على فهم العنوان.