الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

34/01/28

بسم الله الرحمن الرحیم

 استقلال البنت البالغة الرشيدة في الولاية على نفسها في عقد النكاح
  اطلاقات النكاح في القرآن:
 
  عندما ذكرنا دلالة الآيات القرآنية وأنها بإطلاقها تدل على صحة كل عقد من قبيل " أوفوا بالعقود " " وأحل لكم ما وراء ذلك " وذكرنا استدلال بعض من قال بالاستدلال للولاية على البنت على نفسها لها الولاية المطلقة بالعمومات التي يستفاد منها أن " الناس مسلطون على أنفسهم ".
  هنا يجرنا الكلام إلى بحث مهم له أهميته العلمية الكبيرة إذ قد يقال أن " أوفوا بالعقود " هي للعقود المشروعة التي تمت مشروعيتها، يعني العقد التام الأجزاء والشرائط حينئذ يجب الوفاء به. وبعبارة أخرى " أوفوا بالعقود " أي بالعقد الصحيح فلا يمكن استفادة مشروعية العقد من " أوفوا بالعقود " خصوصا أن هذه الادلة أدلة إمضائية والامضاء دليل لبي فيقتصر فيه على القدر المتيقن.
  هذا الاشكال جرنا إلى هذا البحث وهو أن الالفاظ الموجودة في النصوص التي هي موجودة أصلا عند العرف عندما يستعمها الشارع هل يستعملها في خصوص الصحيح منها التام للأجزاء والشرائط أو يشمل غير الصحيح أيضا، فمثلا: عندما يقول الشارع " النكاح سنتي " هذا إمضاء وتقرير لمفهوم النكاح، بلا شك أنه يشمل الانكحة الصحيحة. فلو شككنا في نوع من النكاح قديما أو حديثا فهل استطيع التمسك بإطلاق " النكاح سنتي "، بل هل استطيع أن استفيد الاطلاق أو لا، أو هو مجرد إمضاء لنفس النكاح بغض النظر عن أفراده وخصوصا أن نفس استعمال لفظ النكاح هو إمضاء له، وهكذا في كل الالفاظ الواردة كالإجارة والبيع " أحل الله البيع " والعقود " أوفوا بالعقود " إلى آخره . من هنا فهل إطلاقات هذه النصوص تشمل غير الصحيحة منها.
  قلنا أن الشروط ثلاثة أقسام: إما معلوم، فلا بد من الاتيان به. أو معلوم العدم، فلا يجب الاتيان به سواء كان مأخوذا على نحو الـ بشرط لا أو لا بشرط. أو مشكوك. إذا أتيت بعقد مشكوك كما في عقد النكاح، أشك في شرط الاتيان بالصيغة، او باللغة العربية أو بالماضوية، بصحة العقد بلفظ المضارع. هذه الشروط إذا اتيت بها فالعقد صحيح. فلو أتيت بعقد دون الشرط المشكوك، فهل " اوفوا بالعقود " تشمله؟ إذا قلنا أن " أوفوا بالعقود " للصحيحة فقط فلا تشمله.
  وقلنا في مقام تقسيم الشبهات وقسمناها إلى: الحكمية، أو المفهومية، أو المصداقية.
  هذه الشبهة حكمية، وعند الشبهة الحكمية اولا ابحث عن علم فإن لم أحد فعلمي، فإن لم أجد فأصل لفظي، فإن لم أجد فأصل عملي وقد بيناه فلا نكرر. ثم إن بعضهم قد ينتقل مباشرة إلى الاصل العملي وهو في آخر سلم الاستدلال.
  للتذكير: العلم ناشئ من الامور التي تورث القطعي كالتواتر والخبر الواحد المحفوف بالقرائن والاجماع العملي والسيرة القطعية.
  العلمي من الخبر الواحد الصحيح والشهرة الفتوائية المعتبرة والقياس المعتبر، الظن المعتبر وغير ذلك.
  الاصل اللفظي وهو الذي سنتكلم فيه هنا، هل عندنا أصل لفظي عام أو مطلق في هذه النصوص ليشمل الصحيح وغير الصحيح، هل هناك عموم في " أوفوا بالعقود " يشمل غير الصحيح أو نقتصر على القدر المتيقن الذي أعلم صحته؟ هل يشمل العقود المشكوك صحتها التي ليس فيها جزءا أو شرطا فترجع إلى مسألة الصحيح والاعم؟.
  الاصل العملي في كل الشروط والاجزاء هو الفساد وأصالة عدم ترتب الأثر. وذكرنا ان أصالة الاطلاق تقتضي طرد الشرط المشكوك واصالة الفساد تقتضي الاتيان بالشرط المشكوك، فنتيجة الاصل اللفظي تختلف عن نتيجة الاصل العملي.
  هل " أوفوا بالعقود " تشمل مطلق العقود، أو خصوص العقود الصحيحة؟
  فلنقسم الموضوع إلى مسألتين كل منهما تختلف عن الأخرى في مقام الاستدلال.
  المسألة الاولى: هل تشمل " أوفوا بالعقود " ما شك في شرط أو جزء مما كان في زمن التشريع.
  المسألة الثانية: المستحدثات بعد زمن التشريع، وهناك أنواع من الأنكحة الجديدة، كالمساكنة، الزواج المدني والزواج العرفي والمسيار. هل استطيع أن اتمسك بقوله (ص) " النكاح سنتي " لأصحح كل أنواع الزواج الجديد؟ وفي البيع " لا بيع إلا في ملك " هل أستطيع أن اصحح كل أنواع التملك الجديدة من قبيل تملك الدولة والبلدية والجمعيات أو الملكية الفكرية. السؤال هل يصدق عنوان الملك؟ ثم بعد صدق الملك هل استطيع التمسك بإطلاق " لا بيع إلا في ملك " لتشمل كل جديد أو لا؟
  أما المسالة الاولى: وهي شمول العقد لكل ما شككنا لصحته من العقود مما كان في زمن الشارع.
  فنقول: أن الآية إمضاء للعقود وإمضاء لهذا العام.
  إن قلت: أن موضوع الامضاء، يجب أن يكون مرتكزا في اذهان الناس وهو اقرار ما عندهم، أما في المستحدث بعد ألف سنة هل يشمله الإمضاء؟ هل نقول هنا بالإطلاق؟ وخصوصا أن الامضاء دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، فلا يشمل الامضاء العقد غير الموجود في ذلك الزمن أو غير الملتفت إليه في نفس الزمن.
  نقول: اننا نذهب إلى شمول العام لهذه المسألة لان تزويج البنت من نفسها من القريب جدا انها كانت موجودة، وإن كانت النساء في ذلك الزمن مسحوقات ليس لها مع وليها أمر، ففي الجاهلية كان الولد يقول: أرث زوجة أبيه كما أرث أبي. لذلك نزل القرآن الكريم " لا تنكحوا ما نكح أباءكم من النساء ".
  فإذن نقول: ان هذه المسألة كانت محل ابتلاء، إذن هي موجودة في الاذهان وملتفت إليها فالإمضاء يشملها، ولهذا اجرينا أصالة الاطلاق وأصالة العموم في كل العقود المشمولة في ذلك الزمن بشرط ثبوت عنوان العقد.
  المسألة الثانية: في شمول " أوفوا بالعقود " وامثالها للعقود المستحدثة وما اكثرها في زماننا هذا، كما في سندات الخزينة، هل استطيع إذا شككت في صحته أُن صَحِّحه " أوفوا بالعقود " ؟. هل الملكية الفكرية بقوله (ع) " لا تبع ما ليس تملك " الملك هو نفس الملك العرفي وهذا ملك عرفي فتكون الملكية الفكرية محترمة؟ وإلى آخره.
  الاشكال أن الامضاء دليل لبي فنقتصر فيه على القدر المتيقن، والعقود المستحدثة لم يكن ملتفتا إليها قطعا، لم تكن موجودة في زمن التشريع وليست موجودة في الارتكاز الذهني، ولا بد في الامضاء من التفات المتكلم إلى ذلك لان الامضاء اقرار ما كان في زمن الامضاء، أما المستحدثات من الأشكال الجديدة فلا يشملها.
  قلت: أن المفهوم كمفهوم الملكية ومفهوم النكاح والطلاق والعقد والملك والإجارة، لما امضاها الشارع وقال: " النكاح سنتي " أمضاها على أحد نوعين من القضايا:
  إما على نحو القضية المحصورة، وإما على نحو القضية المهملة.
  فأما إن يكون المراد الحكم في مفهوم النكاح بغض النظر عن أفرادها أو أن تكون الافراد ملحوظة عاما وخاصا. فهذه القضايا في " النكاح سنتي " مثلا إما مأخوذة على نحو القضايا المحصورة أي ملحوظة الافراد. بعبارة اخرى كأنه قال: " كل نكاح سنتي " أو أن المراد تشريع أصل العنوان فلا يلحظ الافراد عاما او خاصا.
  فإذا كان قد أمضى القضايا على نحو القضية المحصورة فصار " كل نكاح سنتي " فكل ما صدق عليه النكاح صار صحيحا حتى ولو بعد ألف سنة، كلما صدق العقد تم ووجب الوفاء به وتم الحكم. فإذا امضى على نحو القضية المحصورة أي لاحظ الافراد فتكون المفاهيم محمولة على نحو الحمل الشائع الصناعي الذي هو حمل على الافراد، ويكون العنوان مرآة وعنوانا لأفراد كمثال: الانسان ميت. حمل شائع صناعي العنوان الانسان والميت حمل على الافراد.
  فإذا تم عنوان العقد تم " أوفوا بالعقود "، تم النكاح " النكاح سنتي " والافراد بأكملها ملحوظة فتكون القضايا عامة ومطلقة، وعليه القضية تشمل كل ما يصدق عليه العقد والملك والنكاح.
  أما إذا كانت القضايا ملحوظة على نحو القضية المهملة، والمراد تشريع أصل النكاح بغض النظر عن الافراد كلا أو بعضا. فان الافراد وإن لم تكن مشمولة للقضية " أوفوا بالعقود " بمنطوقها والفاظها وحين الاستعمال، إلا ان المفاهيم لما كانت بالحمل الشائع الصناعي أي الافراد ملحوظة، فإن تخصيص بعض الافراد بالحكم دون الآخر تخصيص بلا مخصص، وببركات مقدمات الحكمة تشمل القضية كل الافراد. ولان الآثار هي للافراد فتخصيص بعض الافراد دون الآخر يحتاج إلى دليل. فببركات مقدمات الحكمة صار عاما أي انقلب من مهملة إلى محصورة.
  وبعبارة أخرى التخصيص هو الذي يحتاج إلى دليل وليس العكس، ولذلك قالوا إذا قلنا " أكرم العالم " أو " أكرم كل عالم " ما الفرق بينها في مقام الدلالة على العموم. فـ " أكرم كل عالم " تدل على العموم بالوضع. أما " أكرم العالم " فليست موضوعة للعموم، بل ببركات مقدمات الحكمة " أكرم " تسلَّطت على العنوان والماهية، ولما كانت الماهية لا تكرم بل الذي يكرم هو الافراد، وتخصيص بعض الافراد يحتاج إلى دليل فصار " أكرم العالم " تدل على العموم.
  إن قلت: هذا صحيح لو ثبت العنوان " العقد " لان العنوان والمفهوم لم يتغير ولكن الثابت من العنوان هو ما كان في زمن الشارع، أما الافراد الجديدة فليست من المعلوم انه ينطبق عليها الملك أو النكاح. فالمهم صدق العنوان، من قال بان هذه العقود الجديدة بعد ألف سنة ينطبق عليها العنوان؟! هذا اول الكلام.
  قلت: أن المفهوم الشرعي هو نفسه المفهوم العرفي فلا حقيقة شرعية في البين وهذا المفهوم لم يتغير من ألف سنة إلى يومنا، وعليه لما كانت الحقيقة الشرعية هي بنفسها الحقيقة العرفية فكل ما صدق عرفا صدق شرعا. ولذلك إذا كان هناك ملك للجهة للدولة، أو الملكية الفكرية براءة الاختراع، إذا كانت تعتبر عرفا ملكا فهي مملوكة شرعا ولذلك تكون محترمة. ولذلك التخصيص يحتاج إلى دليل وليس العام، الالغاء يحتاج إلى دليل، لا احتاج إلى دليل على ملكية الدولة بل احتاج إلى دليل اسقاط الملكية. ولذلك بعض العقود اسقطها الشارع، وذكرنا سابقا أن الاوضاع هل أبوابها توقيفية أو لا؟ أي الملكية لها أبواب كالإرث والحيازة والبيع والشراء، فلو اخترعنا بابا جديدا للملكية هل يصح هذا الباب أو لا؟ الشارع اسقط بعض الملكيات من حيث السبب ومن حيث المملوك ومن حيث المالك، فاسقط الربا والقمار كباب للملكية، واسقط ملكية الخمر في مقام وملكية العين وإن كان مملوكا في عرف الدنيا، وفي مقام ملكية الجهة قال العبد لا يملك.
  إن قلت: لا نسلم بأن المفهوم الشرعي هو عين المفهوم العرفي، مصادرة على المطلوب، أي لا نسلم بالحقيقة العرفية لهذا المفهوم فلعل الشارع استعملها لمعان أخرى، في خصوص التام للأجزاء والشرائط، فلا يتم العنوان إلى على الصحيح منها.
  قلت: ان المعاني الشرعية هي نفس المعاني العرفية، والدليل على ذلك أن الشارع تكلم كثيرا فيها في النصوص، والشارع يتكلم بلغة الناس واصطلاحاتهم، فإذا أراد معنى آخر من لفظ ما يجب عليه ان يبيِّن. ثم لو شككنا أنه اراد معنى آخر أو لا، لأمكن إجراء أصالة عدم النقل لأنها أمارة عقلائية تجري عند الشك في النقل سواء كان الشك من زمن إلى زمن أو من اصطلاح إلى اصطلاح. ويؤيد أن النقل يحتاج إلى دليل قوله عز وجل " بسم الله الرحمن الرحيم إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلهم يعقلون " وقوله تعالى " ولقد ارسلنا كل رسول بلسان قومه ليبيِّن لهم ". وهنا اعتبرنا الآيتين الكريمتين يؤيدا وليس دليلا لاحتمال أن يراد من الاولى كونها عربية بشكل عام ولا ينافي وجود بعض الالفاظ الاعجمية كقسطاس واستبرق. وأما في الثانية قد يقال إن المراد من اللسان هو الذهنية وليس لغة ولسانا.
  إذن نقول: بلا شك ولا ريب أن الشارع استعمل الالفاظ في معانيها العرفية، والنقل هو الذي يحتاج إلى دليل. إلى هنا قد تمت الحقيقة العرفية فالملك هو نفس المعنى من ألف سنة إلى يومنا هذا، الحقيقة الشرعية هي نفس المعنى العرفي، ولهذا كل ما كان ملكا عرفا هو ملك شرعا وكل ما كان نكاحا عرفا هو نكاح شرعا وكل ما كان عقدا كذلك. وبهذا نرجع للعرف في هذه الامور وبهذا نثبت صحة كل الامور المستحدثة، ويكون الامضاء حينئذ امضاء لنفس العنوان والعنوان انطبق على افراده بالحمل الشائع صناعي، بالعموم وهو حقيقة عرفية، فكل ما كان حقيقة عرفية تم يعني كل ما كان من أفراده تم، والتخصيص يحتاج إلى دليل وليس العكس، فلا يضرُّ كون الإمضاء حقيقة عرفيه .
 
 والحمد لله رب العالمين.