الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

31/11/24

بسم الله الرحمن الرحیم

خلاصة البحث

اشتباه المفهوم بالمصداق:

کلمة شاعت في الکتب الفقهیة وشاع أیضا في مقام إثبات المصادیق «هذا عرفا کذا» وکأن العرف مرجع في تحدید المصادیق وهو غیر صحیح فإن العرف کما مرَّ مرجع في تحدید المفاهیم غیر الشرعیة أي خصوص الحقائق العرفیة ولیس مرجعا في تحدید المصادیق نعم هو مساعد للمکلف علی تحصیل الاطمئنان علی تحقیق المصداق. وقد أشار إلی ذلک المشکیني(ره) في حاشیته علی کتاب کفایة الأصول للشیخ الآخوند«ره».

ومثال علی ذلک قول الإمام علي بن ابي طالب(ع): «لا علم له بالحرب» عندما طبّقها الناس خطأً علی علي(ع)، فهو من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.

ومثال آخر: قولهم في طفل الانبوب عند البحث عن جواز العملیة وعدمه: «هذا لیس ولد زنی لأن العملیة لیس زنیً عرفاً» والاشتباه هو في الاستدلال بالعرف، فالعرف لیس دلیلا بل هو یعین المکلف علی تحصیل القطع أو الاطمئنان بأن هذه العملیة لیست زني.

ومثال علی اشتباه المفهوم بالمصداق تفسیر النور بالضوء في قوله تعالی: «الله نور السموات والأرض» لأن مفهوم النور هو البین في نفسه المبیّن لغیره والضوء أحد المصادیق.

أسباب الشبهة المفهومیة:

سببان: إما أن تکون الشبهة بسبب الشک في الموضوع له وإما أن تکون بسبب الشک في المراد.

الشک في الموضوع له إما بسبب اختلاف نقل اللغویین وإما بسبب اختلاف الاستعمال وإما بسبب معرفة اللفظ وإما بسبب تعدد استعمال اللفظ ووجود مجاز مشهور أو غیر ذلک.

والشک في المراد لاحصر لأسبابه لأن ظهور اللفظ یتأثر حتی بالأمور الخارجیة، وهي لا تعدّ.

معالجة الشبهة المفهومیة:

نطرق باب الشارع فإن لم یکن مفهوم له نطرق باب العرف فإن لم یکن نطرق باب اللغة فإن لم یکن نأخذ بالقدر المتیقن فإن لم یکن أصبح الدلیل مجملا ونرجع إلی دلیل آخر.

اشتباه المفهوم بالمصداق

وهذا البحث بناء علی رغبة بعض الطلبة الأعزاء:

فإنّهم یجدون العلماء یقولون في مقام التشخیص: هذا عرفاً کذا، فیرتبون علیه الأثر.

ولا بأس ببیان مرادهم من هذا التعبیر: " هذا عرفاً کذاً ".

مثلاً: في مسألة طفل الأنبوب، وهو صنف من التلقیح الإصطناعي وذلک بتلقیح بویضة المرأة بنطفة الرجل ثم زرعها في رحم آخر.

من الشائع في مقام دفع أدلة التحریم، وفي مقام إثبات الولدیة، وأنّه لیس ولد زنی يقولون:

" هذا التلقیح لیس زنیً عرفاً ".

طبعاً التعبیر فیه خلل، لأنّ تطبیق الزنی علی هذا التلقیح هو شأن المکلَّف، ولیس شأن العرف. وهذه المسألة لها أثر کبیر في الاستنباط، حتی اشتهر عندهم جملة «اشتباه المفهوم بالمصداق». وهي من فروع عدم مرجعیة العرف في المصادیق.

ولبیان ذلک نقول وعلی الله الإتکال:

إنّ العرف مرجع في تحدید المفاهیم، وأفراد المفهوم مسؤولیة المکلّف في تطبیق عنوان المتعلق علی المصادیق، إلّا في صورة واحدة، وهي ما إذا کان متعلق الحکم هو الأفراد لا العنوان.

أمّا عدم مرجعیة العرف في تحدید المصادیق فهو لأنّ العرف لیس من شأنه ذلک. بل قد یشتبه في التطبیق.

ولتوضیح الفکرة:

انظروا إلی کلمة علي× في خطبة الجهاد، الموجودة في نهج البلاغة:

"... وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ حَتَّى قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي ...".

فالعرف حکم علی عليّ× بأنّه «لا علم له بالحرب»، وهو× یقول : بعد ذلک متألماً: «... لله أبوهم، وهل أحد أشدّ لها مراساً وأقدم لها مقاماً مني...».

فهذا من اشتباه العرف فقد أخطأ في تطبيق مفهوم " لا علم له بالحرب " علی علي× لذا فهو يخطئ في تحديد المصاديق ، نعم لا يخطئ في المفاهيم لأنه المنشئ لها.

وقد أشار إلی ذلک المشکیني(ره) في شرحه علی الکفایة ، في مسألة الأصل المثبت. أي مسألة: هل الأصل یثبت اللوازم العرفیة والعقلیة والعادیة، کما یثبت اللوازم الشرعیة:

القائلون بعدم حجیة الأصل المثبت، أي بعدم إثبات الأصل للوازمه غیر الشرعیة، قالوا بعدم ثبوت الآثار الشرعیة للأصل، سواء کان مباشرة أم بواسطة غیر شرعیة، نعم استثنی بعضهم حالة واحدة، وهي ما لو کانت الواسطة خفیة، فإنّ العرف یری أنّ الأثر الشرعي قد ثبت للأصل مباشرة بلا واسطة لأنه لم یرها. وردّ هذا القول، بأنّ العرف لیس مرجعاً في تحدید المصادیق، ولذا إذا أخطأ العرف، وحکم بأن الأثر الشرعي أثر مباشر للأصل، وذلک لخفاء الواسطة علیه، لا نأخذ بحکمه، لأنّه لیس المرجع في ذلک.

هذا مضمون کلام الشیخ المشکیني(ره) في شرحه علی الکفایة.

بيانها:

راجعوا المسألة، الأصل المثبت ما هو؟ هل الأصل يثبت لوازمه الشرعية؟ الجواب: يثبت. وهل يثبت لوازمه العقلية والعرفية والعادية أو لا؟ يعني غير الشرعية؟ هذا ما يسمى بمسألة الأصل المثبت وهو لا يثبت لأن الأمور غير الشرعية ليست من شأن الشارع.

إذن، الأثر الشرعي المباشر للأصل يَثبُت، أما إذا کان هذا الأثر يَثبُت بالواسطة، فإن کانت هذه الواسطة شرعية أيضاً يثبت، وأما إذا کانت غير شرعية فإنه لا يثبت.

بعبارة أخری إذا کانت الواسطة شرعية يثبت الأثر، لأن أثر الأثر أثر، وإن لم تکن شرعية فلا يثبت لعدم ثبوت الواسطة.

واستثنی بعض من قال أنه لا يثبت، ما إذا کانت الواسطة خفية، بحيث يتوهم العرف أن الأثر هو مباشر للأصل، لأنه لا يری الواسطة.

ويجيب المشكيني(رحمه الله) أنَّ العرف ليس مرجعاً في المصاديق، بل قد يخطئ ويشتبه. المشكيني(رحمه الله) يصرح بهذا في بعض حواشيه علی الکفاية.

ومثال آخر: في قوله تعالی: " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ ...".

مفهوم النور: هو البیّن في نفسه المبیّن لغیره، ولیس الضوء المکوَّن من تموجات، بل الضوء مصداق للنور، نعم أخطأ من فسَّر النور بالضوء الذي نراه، من باب اشتباه المفهوم بالمصداق. إلّا إذا قال بهجران المعنی الأول والوضع للثاني بحیث صار منقولاً بعد کثرة الاستعمال.

نعم، المصادیق شأن عرفي في حالة واحدة:

وهي ما لو کان متعلق الحکم هو الأفراد العرفیة، ولیس المفهوم، کما في الخوف النوعي الذي هو موضوع لوجوب صلاة الآیات. ولذا إذا حصل مخوف سماوي وخاف الناس، ولم أخف أنا، وجبت عليَّ صلاة الآیات، وإذا خفت أنا ولم یخف الناس، لم تجب عليَّ. فالمتعلق هو ما انطبق مفهوم الخوف علیه عرفاً.

ولو أردنا تطبیق المسألة علی غسل الیدین في آية الوضوء:

"...فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... "

فإذا قلنا إنّ المطلوب تحقیق مفهوم «غسل الید»، کان غسل العامل لیدیه مع بقاء بعض الأثر الحاجب باطلاً، ولو حكم العرف بأنه قد غسل يديه، لأنّه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وإذا کان المطلوب هو الأفراد الخارجیة ل«غسل الید» کان صحیحاً، لأنّ المطلوب قد حصل، وهو الصدق العرفي لغسل الید.

أما معنی قول الفقهاء «هذا کذا عرفاً»؟

فمحمول علی أن العرف یساعد المکلف علی إثبات المصداق، والإثبات هو مسؤولیة المکلف نفسه. وسیأتي بیانه عند البحث في الشبهة المصداقیة.

أسبابها:

وأما النقطة الثانية، وهي أسباب الشبهة المفهومیة.

سببان رئیسیان:

إما أن تکون الشبهة بسبب الشک في الموضوع له وإما أن تکون بسبب الشک في المراد

والشک في الموضوع له یکون :

إما بسبب اختلاف نقل اللغویین وإما بسبب بُعد الزمن والشک في نقل اللفظ من معنی إلی آخر وإما بسبب الإختلاف في الاستعمال وإما بسبب عدم معرفته بذاته أو تعدد استعمال اللفظ ووجود مجاز مشهور أو غیر ذلک...

والشک في المراد لا حصر لأسبابه لأن ظهور اللفظ یتأثر حتی بالأمور الخارجیة کغمزة عین أو إشارة ید أو غیر ذلک.

طریقة المعالجة:

وأما النقطة الثالثة، وهي طریقة معالجة الشبهة المفهومية.

فنقول : للتخلص من الشبهة المفهومیة نلجأ إلی المراحل التالیة:

أن نطرق باب الشارع إن کان لدیه مفهوم خاص اخترعه هو فنأخذ به وهو ما یسمی في علم الأصول بالحقیقة الشرعیة. فنسأله: إن کان لدیه حقیقة شرعیة أم لا؟ فإن لم یکن؟ نطرق باب العرف الموجود آنذاک فنسأله إن کان لدیه مفهوم خاص فنأخذ به، فحیث لا یکون لدی الشارع مفهوم خاص نأخذ بما عند العرف، لأن الشارع یتحدّث مع الناس بحسب عرفهم ومفاهیمهم للألفاظ. فإن لم یکن؟ نطرق باب اللغة ما قبل الشارع، إذ مع انعدام الحقیقة الشرعیة والعرفیة لا بد من الأخذ بالحقیقة اللغویة ـ أي ما کانت قبل الشارع ـ ومع الشک نجري أصالة عدم النقل ـ أي عدم نقل اللفظ من المعنی اللغوي إلی معنی آخر شرعي أو عرفي ـ فنأخذ بالمعنی اللغوي. فإن لم یکن؟ تستحکم الشبهة في المفهوم، ویکون الدلیل مجملاً. وحینئذٍ، إن کان بین المعنیین أو المعاني المردد بینها اللفظ قدر متیقن أخذنا به، وإن کان بینها تباین کلّي رجعنا إلی أدلة أخری.