التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

46/05/11

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: تفسیر القرآن/سورة البقرة /آیة المأتین و العشرة

 

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في‌ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِکَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَي اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.[1]

یکون الکلام في تفسیر آیة المأتین و العشرة من سورة البقرة. و هي تتکلّم عن طائفة لا یزالون یتعذرون مع ما جاء به أنبیاء الله للهدایة من الآیات و المعجزات و لهم أیضاً مطالبات غیر ممکنة غیر منطقیّة. هذه الأشخاص مع ما رأوا من الدلائل الظاهرة یقولون بدل قبول الحقّ: «لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا».[2] هذا الطلب لیس بدلیل الحاجة إلی دلیل أکثر بل یکون لإنکار الحقیقة و الهروب من قبول الإیمان. طلب رؤیة الله و الملائکة مع وجود المعجزات و الآیات کان ذریعةً للإنکار و لجاجاً و استنکافاً عن قبول الحق.

قد أراد الله- تعالی- أن یقول إنّ هذا الطلب مع أنّه غیر ممکن فهو غیر منطقيّ أیضاً؛ لأنّ الله لیس جسماً و مادّیّاً حتّی یمکن النظر إلیه. لا یتجسّم في قالب الجسم حتّی یراه الإنسان کأحد من الأشیاء. هم یدّعون أنّهم یسلمون إن رأوُا الله و الملائکة و لکن هذا الکلام لیس صحیحاً و منطقیّاً. لا یمکن هذا الطلب من الأساس و لا یطابق الحکمة الإلهیّة. الإیمان بالله یجب أن یکون من طریق التفکّر و التعقّل و البصیرة لا بصورة أمر جسمانيّ و مادّي.

معنی ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾:

إذا عمل أحد سیّئاً فأنت لا تتکلّم معه بل تتکلّم مع إنسان ذا شخصیّة و تقول: هل تنظر؟ هل تسمع ما یقولون و بما یتکلّمون؟ خطابك لا یتوجّه إلی الأناس غیر منطقیّین بل یتوجّه إلی الأناس أولي المنطق.

معنی النظر:

من المفردات المهمّة في هذه الآیة «النظر» الذي له معانٍ مختلفة في اللغة العربیّة و المتون الدینیّة أیضاً. یکون «النظر» من جانب بمعنی الرؤیة بالبصر؛ مثل ما إذا تنظر إلی مسجد أو أيّ شيء آخر و تقول «أری». هذا هو الرؤیة الظاهریّة بالعین الظاهريّة و یسمّونه «النظر بالبصر».

المعنی الثاني لـ«النظر» الموجود في القرآن و المنابع الدینیّة، هو النظر العمیق مع التدبّر و البصیرة؛ بمعنی أنّ الإنسان لم ینظر ظاهریّاً فقط بل یتأمّل في ما نظر فیه و وصل منه إلی حقائق باطنیّة و معنویّة. یسمّون هذا النظر «النظر بالبصیرة».

المعنی الثالث لـ«النظر» معنی مرکّب من المعنیین السابقین؛ أي النظر بالبصر مع التدبّر فیما یبصر. في هذا المعنی، ینظر الإنسان إلی ظاهر الأشیاء و یتفکّر في نفس الوقت إلی عمقها و یدرك الحقائق المخفیّة خلفها. علی سبیل المثال، قد جاء في القرآن: ﴿أَ و َلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾[3] ؛ أي أنظروا إلی السماء و الأرض و الخلق و تفکّروا کیف خلقها الله؟ هذا النظر لا یکون النظر الظاهريّ فقط أو التعقّل و التدبّر فقط؛ بل یشمل کلیهما معاً.

هذه الآیة بصدد أن یذمّ اعتذار هذه الأفراد و لجاجهم. لا یمکن بحسب العقل و المنطق طلب رؤیة الله و الملائکة بالبصر، بل هو مجرّد اعتذار للهروب عن قبول الحقیقة. الذین کان لهم مثل هذه الطلبات فهم یبحثون عن اعتذار للابتعاد عن الحقّ و لا یریدون بحسب الواقع قبول الحقیقة. «النظر» في هذه الآیة یشمل المعنی الثالث؛ أي النظر الظاهريّ مع التعقّل و التدبّر منظور فیها جمیعاً.

مقتضی حکمة الله:

هذه الآیة في استدامة الآیة السابقة القائلة بـ﴿أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَکيمٌ﴾[4] حکمة الله أي یفعل الله أفعاله مع الحکمة و لا یفعل أفعالاً لا حکمة فیها. أن تقولوا إنّا أردنا أن نری الله و الملائکة فهو فعل من دون الحکمة و لا ینبطق علی العقل و المنطق. إنّ الله عزیز حکیم و قادر علی کلّ شيء و لکن لا تتعلّق القدرة بالأمور المستحیلة. هذا بیان لقوله ﴿عَزيزٌ حَکيمٌ﴾ و حکمة الله تقتضي هکذا.

و من ناحیة أخری هنا أفراد لیست لهم بصیرة و هم یبحثون عن دلائل لا أساس لها و لا یستطیعون إدراك هذه الحقیقة و یذکرون اعتذاراتٍ مثل رؤیة الله و الملائکة. یقول الله لهم إنّ کلّ الأمور صائرة إلیه و لا ینبغي أن تکون هذه الادّعاءات التي لا أساس لها و لا منطق لها أسباباً لمنع قبول الحق.

ثمّ أشار الله- تعالی- في ختام هذه الآیة بأنّ الأعمال و الأمور صائرة إلیه و بیده کلّ شيء. هذا الکلام بمعنی أنّ الحقیقة ستظهر في النهایة و سیؤمن العقلاء و اهل البصائر مع رؤیة آیات الله. إنّ من لا بصیرة له فهو یعتذر دائماً و یبتعد عن الحقّ و لو ظهرت له الآیات الواضحات. و لذلك یحذّر الله من لدیه هذا اللجاج و یذکّر البصراء و ذوي الألباب أنّ أفضل الطریق لإدراك الحقیقة و الوصول إلی الله هو النظر العمیق مع البصیرة.

تُعلّمُنا هذه الآیة أن یجب علینا أن نصل إلی الإیمان و معرفة الله من طریق التعقّل و البصیرة و نعلمَ أن بعض الطلبات مثل رؤیة الله و الملائکة بالعین الظاهرة فلا منطق لها و هو مستحیلة لا تطابق حکمة الله.

 


[1] السورة بقره، الأية 210.
[2] السورة فرقان، الأية 21.
[3] السورة اعراف، الأية 185.
[4] السورة بقره، الأية 209.