التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

46/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: تفسیر القرآن/سورة البقرة /آیة التسع و المأتین

﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْکُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَکيمٌ﴾[1]

یکون الکلام في تفسیر آیة التسع و المأتین من سورة البقرة. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْکُمُ الْبَيِّناتُ﴾، قال الله- تعالی: إن زلّ أبناء الإنسان بعد مجیء الدلائل الظاهرات و الحقائق الواضحات ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَکيمٌ﴾ فإنّ الحجّة قد تمّت هاهنا؛ أي قد أوصله الله إلیه الدلائل و البراهین الواضحات و قد وصل هو إلی المعرفة فإن زلّ بعد هذه فقد کانت زلّته مع العلم و لا یمکن له القول بأنّي کنت جاهلاً. إنّ الکلام هنا مع من رفع الید عن علمه و معرفته اتّباعاً لأهوائه النفسیّة. هذه النکتة مهمّة و هو أنّ الدلائل و البراهین الواضحات إذا جاءت و وصل الإنسان إلی المعرفة فکلّ نوع من أنواع الانحراف بعدها فهي لعدم الالتفات إلی ذاك العلم و المعرفة.

معنی ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾:

قوله- تعالی: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ یکون بمعنی أنّ الإنسان إن زلّ مع ما له من العلم و وضوح الدلائل فلیعلم أنّ الله عزیز حکیم. لذلك تقول العبارة بوضوحٍ إنّه قد ظهر لکم الأمر ظهوراً تامّاً؛ لیس الأمر أن یزلّ الإنسان لعدم العلم و المعرفة. نعم قد لا یعلم الإنسان و یزلّ لجهله و لکن في وقت آخر تصل إلیه الدلائل و الاحتجاجات المحکمة فیعلم بها ثم یزلّ بعدها. إذا کان هکذا فلیعلم بـ﴿أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَکيمٌ﴾.

القدرة:

النکتة الموجودة هنا أنّ عذاب الله- تعالی- علی طبق حکمته. الله حکیم و مع حکمته قادر أیضاً. من الأمور المهمّة التي تهدّد الإنسان و یجعله في خطر، هي القدرة. یمکن أن تسبّب القدرة الغرورَ و التکبّرَ و الفساد و تسوق الإنسان إلی الانحراف. أکثر المشاکل و المفاسد الموجودة في الجوامع الفعلیّة، لسوء الاستفادة من القدرة؛ مثل ما يحدث في المجتمعات الأمريكيّة و الأوروبيّة و ظلم الصهيونيّة. إنّ القوّة هي التي توجب الغرور و التکبّر و الفساد و أعظم خطر على الإنسان و المجتمع هي هذه القدرة.

ویل لمن إذا قدر أراد أن ینتقم؛ علی سبیل المثال: إن لم یسلّم علیك أحد أو لم یجب تحیّتك فإنّك إذا صرت ذا قدرة فهناك خطر وقوعك في فکرة الانتقام و الظلم. القدرة شيء إذا لم تقع في ید المعصوم أو أولیاء الله، أمکن وقوع القادر في الفساد؛ فلذلك قد استخدم في القرآن الکریم قوله ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾؛ أي قدرة الله مع حکمته.

معنی العزیز:

قد استخدمت لفظة "عزیز" في القرآن قریباً من ثمانین مرّةً و حیثما جاءت لفظة "عزیز" جاءت معها أیضاً ألفاظ أخری کــ"الرحیم" و "العلیم" و "الحمید" أو "الکریم". یجب أن تکون القدرة مصحوبةً بالحکمة و الرحمة. العزیز أي القادر الذي لا یمکن لأحد الغلبة علیه؛ إذا کانت القدرة مصحوبةً مع الحکمة و الرحمة فهي ذات القیمة. کلّکم أولوا قوّة في بیوتکم فإذا استخدمتموها بشکل صحیح کانت حسنةً و إلّا کانت من أخبث الصفات و صارت أسوء الأشیاء بعد ما یمکن أن تکون أحسنها. یغضب و یصرخ و یظلم ولده و زوجته. فالقدرة یجب أن تصاحبَ الحکمةَ و الرحمة. قال الشیخ الطبرسيّ (رحمه الله) في مجمع البیان: «الْعَزِيزُ: الْقَدِيرُ الذي لَا يُغالَبُ»[2] . لا تستعمل لفظة "عزیز" في الله فقط بل تستعمل لغیره کاستعمالها في قوله- تعالی: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾[3] فأطلق "العزیز" لغیره- تعالی؛ أي لیوسف (علیه السلام).

إنّ الله عزیز عزّاً مع الحکمة و الرحمة و الکرامة فلا بدّ من الالتفات إلی أن لا تسوق القدرة صاحبها إلی الغرور و الضلال و البؤس. قد رأینا في تجاربنا الشخصیّة أنّ الأصدقاء القدیمیّین إذا بلغوا وظیفةً أو منصباً فلا یسألون عن أحوالك أو لا یردّون جوابك عبر الهاتف؛ هذا هو الغرور الذي جاءت به القدرة. إن صرت ذا قدرة فعليك بازدیاد التواضع. ما أجمل القدرة إذا کانت مع التواضع و الرحمة و لکن إذا صاحبت مع التکبّر و الغرور و الظلم فهي تجلب البؤس للمجتمع.

الوعید:

یری بعض المفسّرین أن لا یلزم إجراء الوعیدات (التهدیدات) التي جاءت في القرآن و یمکن أن یعفو الله- تعالی- رحمةً و کرامةً؛ فلذلك لیس العذاب في الآیة قطعيّاً و یمکن العفو؛ هذان الاحتمالان موجودان هنا و یتوقّفان علی مقدار الضلال و الظلم و شدّتهما. بعبارة أخری إنّ الله یهدّد الناس حتّی ینتهوا عن الذنوب و لکن یمکن العفو في مقام الإجراء فلذلك يقال: إنّ الله عزیز حکیم یعذّب إن شاء و یعفو إن شاء.

یمکن استفادة هذه النکتة الأخلاقیّة من الآیة و هي أنّ علینا أن نستخدم قدرتنا صحیحاً مع الحکمة و لا نجعلها وسیلةً للظلم و الفساد.


[1] السورة بقره، الأية 209.
[2] مجمع البيان في تفسير القرآن - ط دار المعرفة، الشيخ الطبرسي، ج1، ص394.
[3] السورة یوسف، الأية 88.