الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/ تفسیر سورة البقرة/ الآیة المائتان و الإثنتان
یکون البحث في تفسیر الآیة المائتین و الإثنتین من سورة البقرة المبارکة.
﴿أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا[1] وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[2]
قلنا في الآیات السابقة أن اسألوا الله في دعواتکم الدنیا و الآخرة معاً و لا یکن الأمر أن تسألوا الله الدنیا إذا دعوتم و یکونَ مطلوبکم الدنیا فقط بل اسألوا الله الإثنتین و قولوا ربّنا: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[3] ، هذا في مقابل إفراط بعض و تفریط بعض آخر. بعض الناس لا یریدون إلّا الدنیا و بعضهم لا یریدون إلّا الآخرة و لا یبالون بالدنیا. لیس في شيء منهما توازن و إنّما التوازن فیما إذا سأل الإنسان من الله الدنیا و الآخرة معاً. فإذا صار هذا الفکر فیك حاکماً فأنت ممّن قال الله- تعالی- فیهم ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، فإنّ لك نصیباً ممّا اکتسبت؛ أي إن سألت من الله الدنیا و الآخرة معاً فقد أخذت نصیبك.
معنی قوله «نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا»
هل یکون قوله- تعالی: ﴿نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ بمعنی أنّ لکم نصیباً بما دعوتم؟ أو یکون النصیب لما سعیتم و اجتهدتم؟
نصیبٌ مِمَّا كَسَبُوا؛ أي خدماتکم و أعمالکم الصالحة مع ما دعوتم. الإنسان الفعّال و العاقل من یعمل من الصالحات و یدعو بدعوات جیّدة، یسأل الدنیا و الآخرة معاً. لا یکون قوله «ممّا کسبوا» بمعنی «ممّا دعوا» إذ لا یعطي الله الإنسان کلّ ما سأله بالدعاء فقط بل علی الإنسان أن یکتسب و یعمل صالحاً و یدعو أیضاً. للأعمال الصالحة تأثیر و للدعاء تأثیر آخر.
من أوصافه- تعالی- أنّه سریع الحساب
﴿وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
ثمّ إنّ في هذه الآیة الشریفة نکتةً و هو أنّ الله- تعالی- سریع الحساب. علی سبیل المثال یری الإنسان في الحاسوب حاصل اجتهاد أحد مدّة عشر سنین. قال الله- تعالی: ﴿وَ لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[4] ؛ فإنّ الله لا ینسی و أعمال الإنسان کلّها مضبوطة محفوظة في علم الله و تکون الأعمال الدنیویّة و الأخرویّة کلّها معلومةً هناك، قال: ﴿وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾[5] فإنّ أصغر أعمال الإنسان مضبوط هناك و لا تجد مورداً واحداً تقول فیه إنّ عملي الخیر هذا، قد نُسي. إنّ الله- تعالی- سریع الحساب و قال في القرآن: ﴿وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾[6] فإنّ حسابه- تعالی- أسرع من کلّ حاسوب. سریع الحساب من أسماء الله- تعالی.
ثمّ إنّ هناك نکتةً حول سرعة حساب الله- تعالی- و هو أنّه قال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[7] (بعث الموتی لیس صعباً علینا؛ لأنّا) إذا أردنا شيئاً قلنا له «کن» فیکون. تکون أعمال الله- تعالی- من مقولة «کن فیکون»؛ أي إذا قال لشيء «کن» فسیکون في اللحظة و لا یکون الزمان فاصلاً بین قوله و فعله کي یقال إنّه سیوجد الشيء بعد دقیقة أو ساعة، لا؛ یوجد في اللحظة.
هل تکون صفة سریع الحساب من أوصاف الله الذاتیّة أم من أوصافه الفعلیّة؟
الصفات الذاتیّة:
هي صفات یکفي في توصیف ذات الله- تعالی- بها، مجرّد تصوّر ذاته- تعالی- و کلّ واحد منها ینتزع من ذاته-تعالی- مع الإلتفات إلی نوع من الکمال؛ نحو: الحیاة و العلم و القدرة و الإرادة؛ بعبارة أخری: تصوّر ذاته- تعالی- یکفي في اتّصافه بتلك الصفة. صفات مثل الحیاة و العلم و القدرة هي من الصفات الذاتیّة لله- تعالی؛ أي إنّه- تعالی- حيّ عالم قادر. إذا تُصوّرت ذات الله انتزعت صفات الحيّ و العالم و القادر من الذات.
الصفات الفعلیّة:
هي صفات تنتزع من علاقة الله بمخلوقاته؛ مثل: الخالقیّة و الرازقیّة. یقال: الله- تعالی- رازق؛ أي یرزق عباده. هنا سؤال و هو أنّ سریع الحساب من الصفات الفعلیّة أو الصفات الذاتیّة؟
للمفسّرین هنا آراء مختلفة:
۱) قال بعضهم: إنّ سریع الحساب من الصفات الذاتیّة لله- تعالی؛ أي تصوّر ذاته- تعالی- ملازم کونه سریع الحساب.
۲) قال بعض آخر: إنّ سریع الحساب من الصفات الفعلیّة لله- تعالی؛ أي إذا أراد الله محاسبة أعمال العباد فهو سریع الحساب، مثل کونه رازقاً و خالقاً.
۳) قال بعض ثالث: إنّ سریع الحساب برزخ بین الصفات الذاتیّة و الصفات الفعلیّة للباري- تعالی؛ أي هو من الصفات الذاتیّة من وجهة نظر أنّ ذاته- تعالی- سریع الحساب و من وجهة نظر أخری حیث إنّه حاسب أعمال العباد فهو من الصفات الفعلیّة له- تعالی.
معنی الکسب:
الکسب ما یجلب النفع أو یدفع الضرر؛ إذا دفع الإنسان عن نفسه ضرراً أو أجلب لنفسه منفعةً فیقال له الکسب. اُستخدمت هذه الکلمة في القرآن في الأعمال الصالحة و هکذا في الإثم و السیّئات؛ کما في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ﴾[8] و قوله: ﴿أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ۗ﴾[9] .
الاستنتاج:
بالنظر إلی ما ذُکر یجب أن یقال: علی المؤمنین أن یکونوا متوازنین و مـُبعدین عن الإفراط و التفریط؛ أي لا یکونوا في طلب الدنیا فقط أو في طلب الآخرة فقط بل علیهم أن یطلبوا الدنیا و الآخرة معاً. من طلب الدنیا و الآخرة فقد عمل مطابقاً للقرآن حیث إنّه اکتسب حسنةً دنیویّةً و التذّ من الدنیا و اکتسب أیضاً حسنةً أخرویّةً. إنّه لا یطلب الدنیا للدنیا؛ بل یطلبه لتوفیق أکثر؛ علی سبیل المثال: إنّ الإنسان إذا أکل طعاماً جیّداً فإنّه یقدر علی حسن التعلّم و حسن العمل. إذا التذّ من لذائذ الدنیا کالخضرة و الماء کانت لدیه أعصاب أکثر هدوءاً و روحیّة أعلی و سیوفّق في الخیرات أکثر من الآخرین. هذه برامج قد بیّنها القرآن لنا و علینا أن نعمل علی طبقها.