الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/ تفسیر سورة البقرة/ الآیة المأتان و الواحدة
یکون البحث الآن في تفسیر الآیة الواحد و المأتان من سورة البقرة المبارکة.
﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[1]
قد ذمّ الله- تعالی- في الآیة السابقة المذکور تفسیرها الذین یطلبون من الله الدنیا و ما فیها فحسب ثمّ قال: ﴿وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾[2] لا یزالون یتبعون الدنیا و آمالهم کلّها دنیویّة. و لکن هناك عدّة من الناس یطلبون کلّاً من الدنیا و الآخرة. تدعون في قنوت صلاتکم هذا الدعاء أیضاً و هو ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، هذا من أفضل الأدعیة التي یمکن أن یدعوا الإنسان بها في القنوت.
الدنیا و الآخرة في القرآن الکریم
قد جاءت کلمة «الدنیا» في القرآن مأةً و خمس عشرة مرّةً و کلمة «الآخرة» قد جاءت بهذا المقدار أیضاً. هذا التشابه في تکرار الکلمات لم یکن تصادفیّاً بل یکون کاشفاً من أهمّیّة هاتین الکلمتین؛ أي کانت الدنیا متکافئةً متوازنةً مع الآخرة. من یتبع الدنیا فحسب فهو في زیغ و من یتبع الآخرة فحسب فهو في زیغ أیضاً. قال الله- تعالی: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾[3] هذه الأرض لکم و هذه البحار لکم و هذه الحیتان لکم و هذه الأشجار لکم و ... کلّ ما في الأرض فهو لکم. دَعوا ضیق نظر عدّة من الناس الذین لا یعطونکم هذه الأراضي، هذه الأراضي لکم. لیتخّذ الناس من هذه الأراضي منافع لهم، کلّ هذه الأراضي تکون لکم و تقدرون علی تملّکها و اتّخاذها و تکون لذّة الدنیا و الآخرة لکم. فعلی هذا یجب أن یکون لکم حظّ الدنیا و الآخرة معاً. لا تقل إنّي لا أرید السیّارة، لا أرید البیت، لا أرید المعیشة الواسعة؛ لا، کلّ هذه مطلوبة. لکم- إن شاء الله- أفضل العیش و أن تکونوا سعداء في الدنیا و الآخرة.
هذا من الأدعیة التي ذکرها الله- تعالی- في القرآن المجید؛ لأنّ خلق الإنسان مبتنٍ علیه. إن إراد جمیع الناس الآخرة و ترکوا الدنیا فمِن أجل مَن خلق الله الدنیا؟ من یستفید من هذه المیاه و الأشجار؟ من أفضل منکم في استفادة هذه الغابات؟ کلّ هذه تکون لکم ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾[4] ، ذروا الإفراط و التفریط حتّی تکون لکم معیشة عالیة مع الهدوء. قد عبّر عن هذه النعم الدنیویّة بـ «الحسنة».
معنی «حَسَنَةً»
الطائفة الأولی المذکورة في الآیة السابقة، هم من یتحدّثون عن الدنیا فقط و لا یتفکّرون في حلالها و حرامها. نعم هناك عدّة من الناس یریدون مقامات الدنیا حلالاً کانت أم حراماً، یریدون الفلوس حلالاً کانت أم حراماً، یریدون المرأة و اللذّة و الشهوة، حلالاً کانت أم حراماً، یریدون کلّ اللذات من غیر فرق بین حلالها و حرامها. و لکنّ المرء المتدیّن یرید الدنیا لکن من طریق الحلال، فلذا قد عبّر عنها بـ «حسنة» و الفرق بین هذه الطائفة و الطائفة السابقة أنّ کلّاً منهما یریدان الدنیا و لکن دنیا هؤلاء حسنة؛ أي کلّ ما یریدون فمن الحلال یریدون و یقولون اللهمّ إنّا لانرید الفلوس المحرّمة، اللهمّ أعطنا من الحلال و اللذّات المحلّلة و لایزالون یتبعون الأعمال الحسنة من طریق الحلال. هذا هو الفرق بین المؤمن و غیره و المؤمن یرید ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾؛ لأنّ کلّ ما في الدنیا حسنة و مطلوب لله.
مصادیق الحسنة
إنّ الله یرید للمؤمنین ما هو أحسن، قد ورد في الروایات أنّ الحسنة هو البیت الواسع و الزوجة الصالحة و سعة العیش و الوضع الماليّ الحسن حتّی تکون الزوجة و الأولاد في راحة و سلام و يعيشوا معيشةً هنیئةً. من المعاني الأخر للحسنة في الروایات هو الأصدقاء الأخیار. الصدیق الخیر حسن، تسیحون معه و تضحکون و تفرحون و لکن لا ترتکبوا خلاف الشرع و ابحثوا دائماً عن الأعمال المستحبّة و الخیرات و المبرّات.
من الأمور التي قد جاءت في الروایات بعنوان الحسنة هو الخلق الحسن و أنّ الله یرزق الإنسان الأخلاق الحمیدة حتّی یحسن سلوکه مع زوجته و أولاده و یظنّ بالجمیع ظنّاً حسناً، فهذه حسنة. ویل لمن یُسيء الظنّ بالناس دائماً و لا یزال ینظر إلی سوءات الناس و یظنّ أنّ جمیعهم ذووا السوءات و یظنّ کلّهم أعداءاً لنفسه. هذه الظنون لیست خیراً بل هي شرّ.
من المصادیق الأخری للحسنة في الروایات، حور العین في الآخرة و المرأة الصالحة في الدنیا و حسن الخلق و الأصدقاء الأخیار و التوسعة في المعیشة و ... هذه الأمور تکون دنیا تسهّل طریق الآخرة للإنسان. إن کانت لدیك إمرة صالحة فستصبح عالماً بسهولة و تقوم لصلاة اللیل بسهولة و تدبّر حیاتك بسهولة. إذا کان لدیك أصدقاء أخیار فإذاً یُسهَّل طریق الآخرة لك. إن کان هناك فقر، یقع الإنسان في الذنب و لکنّ التوسعة في المعیشة تسهّل طریق الآخرة؛ فالحسنة هي الدنیا التي تسهّل طریق الآخرة. إذا کانت لدی مؤمن إمرة سيّئة الخلق، أصحبت الدنیا لدیه مُرّةً و لا یمکن له إتیان عباداته صحیحةً کما ینبغي. الإنسان إذا کانت أموره المالیّة حسنةً فإنّه یصلّي صلاته في راحة و هدوء و لذّة و لکن إذا کان فقیراً فلیس عنده إقبال للصلاة و لا یزال یتفکّر في دَینه و استقراضه و ... إنّما یستطیع التعلّم جیّداً من کان لدیه الهدوء الحاصل بعضه من التوکّل علی الله و بعضه من التوسعة في المعیشة التي رزقها الله جمیعنا- إن شاء الله.
تمتّعوا من الدنیا و الآخرة فهذا هو المطلوب و لیس هکذا أن نکون تارکي الدنیا غیر مبالین بها و علینا أن ندعوا أیضاً أن یحفظنا الله من النار ﴿وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
ثمّ اعلموا أنّ کلّ أحد یمکن أن یصبح محبّاً لشيء، بعض الناس یحبّ الفلوس فإنّ من اللازم وجودها لحیاة الإنسان و إنّها جیّد. بعض الناس أیضاً یحبّون المقام و یحبّون أن یصبحوا محبوبین و صاحبي مقام و ریاسة. فإنّ للمقام حدّاً و إن کذب و افتری لحبّ المقام فهو خلاف. یکون حسناً أن تکون الدنیا لدی الإنسان و لکن إذا جاوزت الحدّ فستقود الإنسان إلی الخلاف. یکون حسناً أن تکون للإنسان إمرأة صالحة و لکن إذا لم یقنع الإنسان لا بالواحدة منها و لا بالإثنتین منها و لا بالعشرة منها ... فهي إسراف و قال الله: «لا تسرفوا». لاحظوا کلّ شيء لکن في حدوده الحلال. لا یجوز للإنسان أن یسرف في الدنیا و یجب الالتفات إلی أن یصل إلیها من طریق الحلال.
السيّئة في مقابل الحسنة
تکون في مقابل الحسنة، السیّئة؛ أي اطلب من الله مهما ترید و لا یکن ما ترید، سيّئةً و معصیةً. ما یرغب کلّ أحد فیه فهو مخالف لما یرغب الآخرون، بعض الناس یرید بیتاً جیّداً و بعض یرید حدیقةً جیّدةً و بعض یرید سیّارةً جیّدةً، فلا إشکال في هذه الأمور إذا کانت حسنةً لا سیّئةً و حین لا تکون من أموال الناس و لا رشوةً و لا أکلاً للمال بالباطل و لا یکن فیها خلاف. إن کانت سیّئةً فلا تحوموا حولها و دعوا المشتبهات منها، دع ما لا تعلم کیفیّته و لا تکون صحّته واضحةً. و لکنّ المال الحلال الشرعيّ الطیّب یکون مباحاً لکم و مطلوباً، خذ منها و أطعم الفقراء و المساکین ممّا زاد منه. لذلك وجب علینا أن نعلّم الناس بأن یقولوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[5] أي فلیطلبوا من الله الدنیا- إذ الدنیا تمهّد للآخرة- و الآخرة.