الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/ تفسیر سورة البقرة/ آیة المأة و التسعة و التسعین

یکون البحث في تفسیر آیة المأة و التسعة و التسعین من سورة البقرة.

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا[1] مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.[2]

کان الکلام في الآیات السابقة حول الحجّ و فیها إشارة إلی أحکام الحجّ و أعمالها (الوقوف في العرفات و المشعر و الطواف و السعي بین الصفا و المروة و ...) و کیفیّة إتیانها. من النکات التي قد أشیر إلیها في هذه الآیة هي لزوم المصاحبة و المعیّة و المشارکة مع سائر الناس في الأماکن و الحالات التي یکون الناس فیها. کلّ الأماکن و الحالات التي تکون للناس یشارکون فیها فشارکوهم في هذه الأماکن و لتکن لکم هذه الحالات.

تعرفون أنّکم إذا أحرمتم للحجّ فإنّ الناس فيه سواء؛ أي لا یفترق الملك عن الفقیر و غیرهم. کلّهم یلبسون ثیاباً خاصّاً و یطوفون و یسعون بین الصفا و المروة مع هذا الملبس و یفیضون إلی المنی و العرفات. تأتون بهذه المناسك و لیس لکم أيّ تشخّص و عنوان خاصّ، بل أنتم سواء. إنّ هذه الشخصیّات الزائفة التي جعلها الأشخاص لأنفسهم مثل أنّي رئیس القوم أو وکیلهم أو رئیس الجمهوريّة، فلیست هي هاهنا موجودةً. یلبس الجمیع في الحجّ لباساً واحداً للإحرام و الحذاء حذاء خاصّ لا قیمة لها و الرِجل مشکوف معها، لا في الحجّ قُبعَة و لا احتفاليّات، تزول تلك الشخصیّات التوهمیّة و الزائفة و یصیر الشخص مع سائر الناس شخصاً عادیّاً کغیره و یصیر کالقطرة في بحر الأناسي.

إنّ هناك کثیراً من الشخصیّات و لکن جمیعهم مع ملبس واحد و شکل واحد، یمشون و یهرولون عند سعي بین الصفا و المروة و یأتون بمناسك الحج. لا یوجد لأيّ شخص من أشخاص الإنسان أيّ تشخّص. ماذا تقول هذا النکتة لنا؟ ما زلنا في حضرة الله- تعالی- و لیس الأمر بأن نکون بحضرته في أیّام الحجّ فقط.

کان یقول الإمام الخمینيّ (أعلی‌الله‌مقامه‌الشریف): «نحن بحضرة الله- تعالی- سواء و لا وجود لهذه الشخصیّات الزائفة مثل الرئیس و المرئوس و الوزیر و رئیس الجمهوریّة و غیرها، بل نحن سواء. إنّ هذا في الحجّ واجب و لکنّه مطلوب في سائر الموارد أیضاً و هو أن یعیش الإنسان مع سائر الناس و یکون في جنب الناس و لا یجعل لنفسه امتیازاً علی الآخرین. إنّ من الخلاف أن أعلم لنفسي مکانةً و عنواناً خاصّاً و أعرّف لنفسي تعیّناتٍ خاصّةً، نعم لا نقول إنّ هذا حرام لکنّه لیس مطلوباً.

مهما یکون الإنسان متواضعاً و مهما یکون مع الناس فهو أفضل عند الله. و لکن من وجهة نظر الخلق، العنوان و التشخّص و المکانة التي تُجعل لأحد فإنّها من الأمور المادّیّة؛ کما أنّا نرید السیّارة و البیت و المعیشة الجیّدة. لا نقول هذه حرام و لکن لیست مطلوبةً. إن کانت لدیك الثروة فاسعَ أن تکون شبیهاً للناس و أن تعیش معهم. في ذُکري أنّ أحداً من الشخصیّات العظیمة الذي ربّما سمعتم إسمه أو رأیتموه، کان هو و أسرته من الأغنیاء و قد علم جمیع الناس أنّهم من الأغنیاء و لکن أوصي إلیه أنّك مع ما لك من الثروة، لا تصنع بیتاً وسیعاً لنفسك لا سیّما في بلدة قم التي کان غالب الناس فیها المعسرین و الفقراء و الروحانیّین. صحیح أنّه لیس حراماً و لکن لا یستطیع الناس من احتماله. لا یعلم الناس أنّ أباه و أجداده من الأغنیاء و هذا البیت الوسیع بسعة آلاف متر کذا و کذا، لیس في شأن الشخصیّة الروحانیّة. نعم إذا کان هناك أحد غیر طالب الدین فلیس بمشکل و مهمّ و لکن مراعاة بعض الأمور للشخص الروحانيّ واجبة و لو کان غنیّاً. علیکم أن تذروا هذه التعیّنات و التشخّصات المادّیّة و الزائفة و کونوا کسائر النا

إنّا إذا کنّا نذهب إلی درس الحاج الشیخ مرتضی الحائريّ- لقد حضرنا مجلس درسه عشرین سنةً تقریباً- کان هناك رجل طویل القامة و حسن المنظر و کان یلبس لبّادة مکویّةً و کان شاخصاً بین الجمعیّة و یلبس الحذاء من الدرجة الأولی و لبّادةً إنجلیزیّةً مکويّةً لم تکن في هذا الزمان مألوفاً و کان یحضر الدر کان إنساناً فاضلاً عالماً. کنّا نعلم أنّ أباه ذو مصنع و ثروة. کان في ذهني- منذ رأیته و سلّمت علیه أحیاناً- أنّه لـِمَ یحضر الدرس مع هذه الحالة و بعض الطلّاب لیست لدیهم إلّا ملابس مرقعة یلبسونها؟ ثمّ إنّه رُأي بعد مضيّ أیّام في أمریکا و یعیش هنا ثمّ ألّف کتباً غیر نقیّة.

غرضي أن لا تجعلوا لأنفسکم تعیّناتٍ. إذا مشیت مشیةً یلتفت إلیك الناس و یقولون ما أجمل ألبسته! ما أجمل حذاءه! فهذا لیس بجیّد لا سیّما للطلّاب. کونوا جیاداً نظیفین و البسوا جیّداً، کلّ ذلك خير و لكنّکم إن تجلعوا فوقه لأنفسکم تشخّصاً فلیس خیراً و سیزداد تدریجاً و یصیر کثیراً و یبلغ إلی حدّ یظنّ أنّه لا یستطیع أن یجالس مع هؤلاء الأفراد. و في الحقیقة إنّا کنّا لا نستطیع أن نمشي مع ذلك الشخص؛ لأنّ الناس کان ینظرون إلینا جمیعاً. تزداد هذه الحالات شیئاً فشيئاً و لا تتّفق بالمرّة. ثمّ تری أنّ الشخص یقول لماذا أعیش في قم الخربة؟ لیس هذا المکان مکاني، إنّي إذا مشیت نظر الناس إليّ، لا خیر في العیش هنا. ثمّ یبدو له أن یذهب إلی خارج البلد و یؤدّي خدماته هناك. قد تظهر هذه الأفکار في أعمالنا أیضاً.

رحم الله أستاذنا آیةالله العظمی الشیخ مرتضی الحائريّ، قد یأتي إلی الدرس و هو یلبس عمامته مقلوبةً أي کأنّه لم ینظر إلی المرآة حتّی یری أنّه وضع عمامته علی رأسه صحیحاً أم لا؟ هکذا کان لا یلتفت. قد نری أنّ قمیصه الداخلیّة فوق قمیصه الخارجیّة. کان غیر ملتفت جدّاً مع أنّه ولد الشیخ عبدالکریم الحائريّ مؤسّس الحوزة العلمیّة و کان شخصاً جلیلاً کلٌّ یقبلون علمیّته. کان السیّد أحمد الخمینيّ و کثیر من شخصیّات ذلك الیوم یحضرون درسه. کان إنساناً غیر ملتفت بالدنیا مع أنّ الجمیع یقولون هو أعلی المراجع الدینیّة و لکن لم یکتب الرسالة إلی آخر عمره. کان طاهراً سلیم النفس و کلٌّ یقبلونه بسلامة النف

بناءا ً علی هذا فمن المسائل التي یمکن لنا أن نتعلّمها من أوامر الحج، هي هذه المسألة. في الحجّ کلّ الناس یلبسون لباس الإحرام مع أنّ فیهم وزیراً أو وکیلاً أو سلطاناً. کلٌّ مع لباس واحد و حذاء واحد لا قبعة فیه و لا تعیّناً و یزول جمیع التعیّنات الزائفة و یدخل الکلّ في بحر الناس و یعبدون الله. یمکن أن یصعب علی بعض الأشخاص عدم لبس العمامة و العباء و القباء و لکن لیس هناك مثل هذا الکلمات بل یُحرم جمیع الناس و یبدأون في إتیان مناسکهم. هذا مطلوب الله أن ندع التعیّنات. کلّ ذلك توهّمات زائفة إذا ظننت أنّي شخصیّة لنفسي. تظنّ و لکن لیس هناك خبر. إن رأیت لك ماء وجه فهو عنایة الله و هو یتفضّل علیك إن یُحفظ ماء وجهك. و إلّا إن کان الأمر مکشوفاً فلم یبق لکثیر منّا ماء وجه. قد ترون أنّه یُری بعض الأشیاء و یذهب بماء وجه الأفراد في مدّة ساعة. ما صرف الله- تعالی- نظره عنّا. لا تزالون- إن شاء الله- تحت حفظ الله و نظره. تری لحظةً أنّ ماء الوجه قد ذهب و خطأ واحد قد یذهب ماء وجه الإنسان.

رجاء رحمة الله و غفرانه

بعض من یحجّون، لعلّ لهم ذنوباً کثیرةً و لکن لا یجوز لهم أن ییأسوا من رحمة الله؛ إذ رحمته الرحیمیّة و الرحمانیّة و غفوریّته و شفقته أکثر من ذنوبنا. غفر الله- إن شاء الله- ذنوبنا؛ فــ ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. لا تیأسوا و تداركوا ما سبق منكم من حقوق الناس. إن تکلّمتم خلف أحد و اغتبتم أو اتّهمتم-لا سمح الله- أو قلتم کلاماً مع عدم الیقین و نشرتم إشاعاتٍ و لکلّ هذه الأمور عواقب و مشاکل و إذا تکلّمتم بکلام قبل أن تستیقنوا به فهو افتراء و إن استیقنتم و تکلّمتم به فهو غیبة. کونوا حذرین و احفظوا ألسنتکم و راقبوا أعمالکم، لا سیّما في حقوق الناس.

معنی «حَيْثُ»

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾

کلّ ما قلناه من التوضیحات هو لهذه الجملة أي امشوا کسائر الناس مصاحبین معهم خطوةً بخطوةٍ. أعني لا یجعل أحد لنفسه تعیّناً. و الآخر أن تکونوا مع الناس و في جنبهم و لیکن لکم مثلهم البکاء و الاستغفار.

أتذکّر عندما أتشرّف بالحجّ في أیّامه، قالوا لنا یمکن لکم أن تلقوا في المنی و العرفات إمام الزمان (علیه‌السلام). نظنّ في أنفسنا أنّ لنا شخصیّةً و کنّا نتجوّل في الصحاري کلّ اللیلة حتّی نعلم هل نتمکّن من رؤیة إمام الزمان (علیه‌السلام) أم لا؟ للناس حالات و الزمان و المکان مؤثرّان فیها. علی سبیل المثال ما لشهر رمضان و الشعبان من القدر و المنزلة! تکون أیّام الحجّ أیضاً لتطهیر النا وعد الله- تعالی- في کتابه لمن یذهب إلی مکّة أنّه سیغفر لکم إن تسغفروا ربّکم و تتوبوا من ذنوبکم. إنّ مکّة و أیّام الحجّ تکون أفضل الأمکنة و الأزمنة للاستغفار و لکن کونوا في الناس و معهم و کلوا ممّا یأکلون. کونوا في القافلة مع الناس و لتکن حالاتکم کحالاتهم.

﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ یعني: امشوا معاً کما أنّ الناس یمشون جمعیّاً. لا تقل إنّي أمشي وحدي من دونهم و لا تجعل لنفسك تعیّناً. لا؛ اُدخل في الناس و کن معهم.

﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

إذا حصلت هذه الحالة أي عندما خلعتَ ملابسك و أحرمتَ و ترکتَ حذاءك الملایینیّة و أصبحتَ بلا قبعة و تشریفات فاستغفر في هذه الحالة. إذا بکیت مع الذین یبکون و یستغفرون فافعل أنت هذه الأعمال و استغفر لـ ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سیغفر لك الله ذنوبك قطعاً. و الله غفور رحیم، «الرحیم» تأکید علی أنّ الله- تعالی- سیعفو عن ذنوبك.

 


[1] أي: أفیضوا إلی المنی.
[2] سورة البقرة، آية 199.