بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

45/04/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: مباحث الالفاظ/ الوضع/ دلالة الامر علی المرّة او التکرار

المقام الثالث: في أنّ صيغة الأمر- أي المجموع المركّب من الهيئة و المادّة‌- هل تدلّ‌ على المرّة أو التكرار أم لا؟

تحریر محلّ النزاع

إختلف الأصولیّون في دلالة صیغة الأمر علی المرّة و التکرار؛ فذهب بعض الی عدم دلالته مطلقاً (لا علی المرّة و لا علی التکرار، بل تدلّ‌ علی طلب الطبیعة). و ذهب بعض آخر إلی التفصیل و هو عدم دلالتها علی المرّة أو التکرار وضعاً و لفظاً و دلالتها علی المرّة إطلاقاً.

قال بعض الأصولیّین(حفظه الله): «إذا دلّ الدليل على أنّ المولى يطلب الفعل مرّةً واحدةً، كقوله- سبحانه: ﴿وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‌﴾[1] أو دلّ الدليل على لزوم التكرار كقوله- سبحانه: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‌﴾[2] فيتبع مدلوله.

و أمّا إذا لم يتبيّن واحد من الأمرين، فهل تدلّ‌ على المرّة أو على التكرار أو لا تدلّ‌ على واحد منهما؟».[3]

هنا قولان:

القول الأوّل: عدم دلالتها مطلقاً (لا علی المرّة و لا علی التکرار، بل تدلّ‌ علی طلب الطبیعة) [4] [5] [6] [7] [8] [9] [10] [11] [12] [13] [14] [15] [16] [17] [18] [19] [20] [21]

أقول: هو الحق؛ لأنّ الطلب یتعلّق بتحقّق الطبيعة في الخارج. و هذا یتحقّق بوجود فردٍمّا دفعةً کانت أو فرداً في التوصّليّات و فرداً فقط في التعبّديّات. و الفرد الواحد لا بدّ منه في کلّ الأوامر. و التکرار یحتاج إلی الدلیل و لکنّ الفرد لا یحتاج إلی دلیل غیر الأمر. و بهذا یظهر عدم الفرق بین القول الأوّل و الثاني في المعنی و ستأتي الأدلّة علی هذا القول.

قال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله):«الحقّ أنّ صيغة الأمر مطلقاً لا دلالة لها على المرّة و لا التكرار».[22]

و قال المحقّق البروجرديّ(رحمه الله): «إنّ التحقيق في المقام أنّه لا دلالة للصيغة مطلقاً- لا بهيئتها و لا بمادّتها- على التكرار و المرّة، بل تدلّ‌ فقط على طلب إيجاد الطبيعة، بمعنى أنّ مفاد هيئتها ليس إلّا للطلب، كما أنّ مفاد المادّة‌ ليس إلّا الطبيعة. و إرادة المرّة و التكرار تحتاج إلى دليل آخر و أدلّة الطرفين بحذافيرها مخدوشة». [23]

أقول: إرادة التکرار یحتاج إلی دلیل آخر و المرّة لا تحتاج إلی دلیل آخر و یکفي الأمر في ذلك.

و لقد أجاد المحقّق الخوئيّ(رحمه الله) حیث قال: «إنّ التكليف قد يكون انحلاليّاً بأن ينحلّ و يتعدّد بتعدّد أفراد الموضوع، كما في التكاليف التحريميّة، فإنّ حرمة شرب الخمر (مثلاً) ينحلّ إلى حرمة هذا الخمر و ذاك الخمر و هكذا، فيتعدّد التكليف بتعدّد أفراد الخمر، بلا فرق بين الأفراد الطوليّة و العرضيّة. و هكذا سائر التكاليف التحريميّة و إن كان التكليف التحريميّ بنحو عدم الانحلال أيضاً‌ متصوّراً.

و كذا بعض التكاليف الوجوبيّة، كما في قوله- تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‌ غَسَقِ اللَّيْلِ﴾[24] ، فإنّ المستفاد منه وجوب الصلاة عند زوال الشمس في كلّ يوم. و كذا قوله- تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[25] ، فإنّ المراد منه وجوب الصوم في شهر رمضان من كلّ سنة، كما أنّ التكليف بالنسبة إلى أفراد المكلّفين انحلاليّ دائماً، بلا فرق بين التكليف الوجوبيّ و التحريمي.

و قد يكون التكليف غير انحلالي، كما في قوله- تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[26] ، فإنّ وجوب الحجّ لا يتعدّد بتعدّد الاستطاعة. و كلّ ذلك خارج عن مدلول صيغة الأمر و مستفاد من‌ قرائن خارجيّة و خصوصيّات المورد؛ فإنّ مفاد المادّة‌ هو الطبيعة المعرّاة عن جميع الخصوصيّات‌ و مفاد الهيئة هو طلب الطبيعة أو ابراز اعتبار الطبيعة على ذمّة المكلف.

فكلّ من الانحلال و عدمه خارج من مدلول الصيغة، فلا تدلّ‌ الصيغة على المرّة و لا على التكرار، نعم يجوز الاكتفاء بالمرّة من باب صدق الطبيعة بها، لا من جهة اعتبار قيد الوحدة في متعلّق الأمر.

و الذي‌ تحصل ممّا ذكرناه أنّ مدلول الصيغة هو طلب صرف الطبيعة، فإن قام دليل من الخارج على التقييد بالوحدة أو التعدّد فيؤخذ به و إلّا فالمرجع هو الإطلاق و يدفع به احتمال التقييد، بلا فرق بين الأفراد الطوليّة و العرضيّة، فيحصل الامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد واحد أو أفراد متعدّدة، طوليّة أو عرضيّة.

هذا إذا كان إطلاق الصيغة في مقام البيان مع تماميّة مقدّمات الحكمة. و أمّا إن كان الكلام في مقام الإجمال أو الإهمال فتصل النوبة إلى الأصل العملي. و مقتضاه البراءة عن اعتبار قيد زائد على صرف الطبيعة من الوحدة أو التعدّد». [27]

قال بعض الأصولیّین(حفظه الله): «المشهور بين المتأخّرين أنّ هيئة الأمر لا يدلّ‌ على المرّة و التكرار، بل يدلّ‌ على صرف الطبيعة فقط؛ غاية الأمر أنّها تحصل بفرد واحد». [28]


[1] السورة آل عمران، الأية 97.
[2] السورة بقره، الأية 185.
[3] الموجز في أصول الفقه، السبحاني، الشيخ جعفر، ج1، ص39.
[4] نهاية الوصول إلى علم الأصول، العلامة الحلي، ج1، ص435.
[5] الوافية في أصول الفقه، الفاضل التوني، ج1، ص75.
[6] أنيس المجتهدين، النراقي، المولى محمد مهدي، ج2، ص618.
[7] مفاتيح الأصول، المجاهد، السيد محمد، ج1، ص117.
[8] الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الحائري الاصفهاني، محمد حسين، ج1، ص71.
[9] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص77.
[10] الأصول في علم الأصول، الإيرواني، الشيخ علي، ج1، ص62.
[11] فوائد الأصول، الكاظمي الخراساني، الشيخ محمد علي، ج1، ص241.
[12] مقالات الأصول، العراقي، آقا ضياء الدين، ج1، ص249.
[13] المحجة في تقريرات الحجة، الصافي الگلپايگاني، الشيخ علي، ج1، ص156.
[14] الحاشية على كفاية الأصول، البروجردي، السيد حسين، ج1، ص207.
[15] أصول الفقه- ط جماعة المدرسين، المظفر، الشيخ محمد رضا، ج1، ص127.
[16] المحاضرات - تقريرات، الطاهري الاصفهاني، السيد جلال الدين، ج1، ص185.
[17] أصول الفقه، الحلي، الشيخ حسين، ج1، ص323.
[18] مصباح الأصول( مباحث الفاظ- مكتبة الداوري)، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج1، ص343.
[19] تهذيب الأصول، السبزواري، السيد عبد الأعلى، ج1، ص64.
[20] دراسات في الأصول - تقريرات، السيد صمد علي الموسوي، ج1، ص598.
[21] الكافي في اصول الفقه، الحكيم، السيد محمد سعيد، ج1، ص163.
[22] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص77.
[23] الحاشية على كفاية الأصول، البروجردي، السيد حسين، ج1، ص207.
[24] السورة اسراء، الأية 78.
[25] السورة بقره، الأية 185.
[26] السورة آل عمران، الأية 97.
[27] مصباح الأصول( مباحث الفاظ- مكتبة الداوري)، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج1، ص343.
[28] أنوار الأصول‌، مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، ج1، ص302.