42/08/01
بسم الله الرحمن الرحیم
موضوع: مباحث الالفاظ/ الوضع/ استعمال اللفظ فی اکثر من معنی واحد
القول الثاني: الوقوع (الدلالة) [1]
أقول: هو الحق؛ لما سیأتي من الأدلّة و لکنّ البطون للقرآن غیر استعمال اللفظ في أکثر من معنی، فلا یختلط البحث.
أقول: إنّ استعمال اللفظ في أکثر من معنی واحد ورد في القرآن الکریم؛ فهو لیس بمحال- خلافاً للقدماء؛ ففي قوله- تعالی: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[2] جاء أمر الله في روایة بمعنی ظهور الحجّة [3] و في روایة أخری بمعنی العذاب. [4]
قال بعض الأصولیّین (حفظه الله): «الروايات الكثيرة الواردة في بيان أنّ للقرآن بطناً أو سبعة أبطن أو أكثر من ذلك، ظاهرة في أنّ اللفظ الواحد استعمل في معانٍ متعدّدة. ... كثير منها دليل على المطلوب.
منها: ما رواه عن المحاسن عن جابر بن يزيد الجعفيّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(ع)[5] عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّفْسِيرِ فَأَجَابَنِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ ثَانِيَةً فَأَجَابَنِي بِجَوَابٍ آخَرَ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ كُنْتَ أَجَبْتَنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابٍ غَيْرِ هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ فَقَالَ يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً وَ لِلْبَطْنِ بَطْناً وَ لَهُ ظَهْرٌ وَ لِلظَّهْرِ ظَهْر ...». [6]
و منها: ما رواه عن تفسير العيّاشي عن الفضيل بن يسار قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(ع)[7] عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ قَالَ: «ظَهْرُهُ [تَنْزِيلُهُ] وَ بَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ، مِنْهُ مَا قَدْ مَضَى وَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَعد يَجْرِي كَمَا یجْرِي الشَّمْسُ وَ الْقَمَر... ﴿وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾[8] نَحْنُ نَعْلَمُهُ» [9] إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى، هذا من جانب.
و من جانب آخر هناك روايات كثيرة وردت في تفسير آيات القرآن ممّا لايحتمله ظاهره أو يعلم أنّه ليس بمراد من ظاهره؛ مثل تفسير «البحرين» في قوله - تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ﴾[10] بأمير المؤمنين و فاطمة‘ و تفسير «اللؤلؤ و المرجان» في قوله- تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ﴾[11] بالحسنين‘ و كذلك تفسير ﴿الماء المعين﴾ في قوله - تعالى: ﴿أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ﴾[12] بظهور الحجّة (ع) و تفسير قوله - تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾[13] (التفث بمعنى الوسخ) بلقاء الإمام (ع) حيث سأل عنه عبد الله بن سنان عن الصادق (ع) قال: أَخْذُ الشَّارِبِ وَ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ ذَرِيحَ الْمُحَارِبِيِّ حَدَّثَنِي عَنْكَ بِأَنَّكَ قُلْتَ لَهُ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لِقَاءُ الْإِمَامِ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ تِلْكَ الْمَنَاسِكُ فَقَالَ (ع): «صَدَقَ ذَرِيحٌ وَ صَدَقْتَ إِنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِراً وَ بَاطِناً وَ مَنْ يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُ ذَرِيحٌ»[14] [15] . إلى غير ذلك من أشباهه.
و لا ريب أنّ الحسنين‘ ليسا معنىً حقيقيّاً للؤلؤ و المرجان و كذلك المهديّ - أنفسنا لنفسه الوقاء- ليس مصداقاً حقيقيّاً للماء المعين؛ بل معناه الحقيقيّ هو المادّة السيّالة المخصوصة حتّى أنّ الماء المضاف من معانيه المجازيّة فكيف بغيره؟ فلايبقى هنا مجال إلّا الاستعمال في أكثر من معنى، كلّ واحد مستقلّ عن الآخر، معنى حقيقيّ و معنى مجازيّ و إن كان المجاز هنا أرقى من الحقيقة من حيث الجمال الأدبيّ و روعة[16] البيان». [17]
أقول: إنّ البطون الغیر الظاهرة لیست استعمالاً لللفظ في أکثر من معنی قطعاً. و بیان المراد من الأئمّة (علیهم السلام) لا یبیّن الاستعمال، بل من باب حجّیّة کلامهم، سواء فسّر القرآن أو لا. و الاستعمال هو الذي یفهمه المخاطب العرفيّ و لو بدقّة عمیق. و أمّا ما لا یفهمه المخاطب و لو بعد الدقّة الکاملة، فلیس استعمالاً عرفاً، فیخرج بذلك هذه الأمثلة عن محلّ النزاع قطعاً.
الإشکال في القول الثاني
يندفع ذلك بإمكان أن يكون المراد من البطون في الأخبار ما هو من اللوازم، للمعنى المطابقيّ التي كان بعضها أخفى من بعض و لايصل إليها عقولنا و لايعلمها إلّا من خوطب به؛ إذ عليه لايكون ذلك مربوطاً بمسألة استعمال اللفظ في المتعدّد كي ينتجّ للقائل بالجواز. و مع الغضّ عن ذلك نقول أيضاً: بأنّه يمكن أن يكون المراد من البطون هي المصاديق العديدة لمعنى واحد كلّيّ التي تتفاوت في الظهور و الخفاء. و عليه أيضاً لايرتبط ذلك بباب استعمال اللفظ في المتعدّد؛ إذ المستعمل فيه حينئذٍ لايكون إلّا معنى واحداً كلّيّاً؛ غايته أنّه لذلك المعنى الكلّيّ مصاديق عديدة بعضها أخفى من بعض بحيث لايصل إليها عقولنا و لا يعلمها إلّا النبيّ (ص) و الوصيّ و الأئمّة من ولده (علیهم السلام) لكونهم هم المخاطبين به؛ فباعتبار خفاء تلك المصاديق و عدم علمنا به عبّر عنها في الأخبار المرويّة عنهم (علیهم السلام) بالبطون، فتدبّر.[18]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین.
کلمات بعض العلماء في ثمرة النزاع
قال المحقّق الرشتيّ (رحمة الله): «إنّ ثمرة الخلاف على ما صرّح به بعض السادات الأعلام هو أنّا لو جوّزنا استعماله في المعنيين حملنا عليه الكلام إذا امتنع الحمل على الاستعمال الوحدانيّ و لو منعنا عنه طرحنا الحديث المشتمل عليه إذا كان ظنّيّاً (مثلاً) و قد يتأمّل في ذلك بأنّ أدلّة اعتبار الخبر و ظواهر الألفاظ مطلقة و مجرّد توقّف العمل به على استعمال المشترك في المعنيين ليس ممّا يصلح للطرح؛ إذ غاية ما يلزم منه خروج اللفظ عن قاعدة محاورات أهل اللسان و هو ليس من عيوب الرواية إلّا أن يحصل الظنّ بعدم الصدور و حينئذٍ فلا فرق أيضاً بين القول بالجواز و القول بالامتناع؛ لأنّ مجرّد الجواز ممّا لاينافي العلم أو الظنّ بالعدم، نظراً إلى ندرته و مرجع الثمرة إلى وجوب طرح الدليل اللفظي الظنّي إذا كان فيه مخالفة لبعض القواعد العربيّة كنصب الفاعل و لو اجتمع فيه سائر شرائط القبول و هو محلّ تأمّل أو منع و لو سلّم فلاينفع في المقام أيضاً؛ لأنّه إذا انحصر المناص في حمل المشترك على جميع المعاني أمكن إرجاعه إلى بعض الوجوه الجائزة المتقدّمة كعموم الاشتراك فلايكاد يظهر الخلاف في أصل الجواز الشامل للحقيقة و المجاز ثمرة أصوليّة». [19]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین.
و قال المحقّق الاصفهانيّ (رحمة الله): «إنّ هذه المسألة من المسائل المهمّة التي لها آثار عمليّة في الفقه. و من مظاهر ثمرة البحث عن هذه المسألة قوله - تعالى: ﴿وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾[20] ، فإنّ في كلمة ﴿من﴾ وجوه:
الأوّل: أن تكون متعلّقةً ب «نسائكم» في قوله - تعالى: ﴿وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾. و عليه يكون معناها: و أمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ حرام عليكم. فلاتدلّ الآية على تقيّد حرمة الربائب بالدخول في النساء.
الثاني: أن تكون متعلّقةً بقوله - تعالى: ﴿رَبائِبُكُمُ﴾ و عليه يكون معناها: ربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ حرام. فالآية إنّما تدلّ على تقيّد حرمة الربائب بالدخول في النساء و أمّا أمّهات النساء مطلقة.
الثالث: أن تكون متعلّقةً بهما معاً، فكانت كلمة ﴿من﴾ مستعملة في معنيين.
فإذا بني على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى أمكن البناء على تعلّقها بهما معاً و تثبت حينئذٍ أنّ حرمة أمّهات النساء و ربائب النساء مقيّدة بالدخول في النساء. و إذا بني على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى لايمكن البناء على تعلّقها بهما، بل لابدّ من حملها إمّا على الوجه الأوّل و إمّا على الوجه الثاني.
فإن قلت: و عليه فلا ثمرة عمليّة للنزا
قلت: أمّا على القول بصحّة استعمال فيهما حقيقةً فواضح؛ لأنّ الاستعمال في مجموع المعنيين بنحو الجمع في اللحاظ مجاز لايصار إليه بلا قرينة.
و أمّا على القول بصحّته مجازاً، فهما و إن تساويا في المجازيّة إلّا أنّ ظاهر الحكم المرتّب على مفهوم وحدانيّ و إن كان بنحو الجمع في اللحاظ، كون المعنى موضوعاً تامّاً للحكم؛ كما إذا حكم على الدار بشيء، فإنّ أجزاء معناها ليس كلّ واحد منهما موضوعاً له، بخلاف ظاهر الحكم المرتّب على مفهومين، سواء كان بلفظين أو بلفظ واحد، فإنّ مقتضاه كون كلّ منهما موضوعاً للحكم؛ فإثبات الإمكان مقدّمة لأحد الأمرين بضميمة ما بيّناه من الظهور، فتدبّر جيّداً». [21]