42/08/01
بسم الله الرحمن الرحیم
موضوع: المکاسب المحرمة/ الکذب/ التقیّة
قال بعض الفقهاء (رحمة الله): «ظاهره أنّه (ع) كان يتّقي في الحكم بعدم جواز المسح على الخفّين و بإحلال المتعتين و بحرمة النبيذ». [1]
تعارض[2] هاتین الروایتین المجوّزتین مع الروایات الأخر
فمنها: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[3] عَنْ أَبِيهِ[4] عَنْ حَمَّادٍ[5] عَنْ حَرِيزٍ[6] عَنْ زُرَارَةَ[7] قَالَ: قُلْتُ: لَهُ فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ تَقِيَّةٌ؟ فَقَالَ (ع): «ثَلَاثَةٌ لَا أَتَّقِي فِيهِنَ أَحَداً شُرْبُ الْمُسْكِرِ وَ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ وَ مُتْعَةُ الْحَجِّ». [8]
إستدلّ بها بعض الفقهاء. [9]
الإشکال في الاستدلال بالروایة
هي غير صالحة للاستدلال بها على المدّعى؛ لاحتمال أن يكون الحكم الوارد فيها من مختصّاته (ع). [10]
و منها: [11] ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ[12] عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ[13] عَنْ أَبِي عُمَرَ الْأَعْجَمِيِّ[14] قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) «يَا أَبَا عُمَرَ إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ فِي التَّقِيَّةِ وَ لَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ وَ التَّقِيَّةُ فِي كُلِ شَيْءٍ إِلَّا فِي النَّبِيذِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ». [15]
الإشکال في الاستدلال[16] بالروایة
إنّها ضعيفة السند و غير قابلة للاستدلال بها على شيء؛ لأنّ أبا عمر الأعجميّ ممّن لم يتعرّضوا لحاله، فهو مجهول الحال من جميع الجهات حتّى من حيث التشيّع و عدمه، فضلاً عن الوثاقة و عدمها، فالرواية ساقطة عن الاعتبار. [17]
کلام السیّد السبزواريّ في المقام
قال (رحمة الله): «مقتضى قوله (ع): «...» صحّة التقيّة فيما سواها مطلقاً حتّى في الوقوف بعرفات و نحوه». [18]
الإشکال في الاستدلال[19] بهاتین الروایتین
ضرورة العقل تحكم بأنّ ترك الصلاة أهمّ من المسح على الخفّين و ترك الحجّ من ترك متعته مع أنّهما داخلان في المستثنى منه. مع أنّا نقطع بأنّ الشارع لا يرضى بضرب الأعناق إذا دار الأمر بينه و بين المسح على الخفّين، بل و شرب الخمر و النبيذ و ترك متعة الحج، فلا بدّ من طرح تلك الروايات أو الحمل على بعض المحامل. [20]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین؛ فإنّ هذه الروایات تدلّ علی أهمّیّة المسح علی الرجلین و أهمّیّة حرمة النبیذ و الخمر و ترك متعة الحجّ و لا تقیّة فیها، إلّا إذا بلغ الضرورة الشدیدة للنفس أو لغیره؛ فلا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهم. و هذه الروایة بیّن الأهمّ تعبّداً و إن لم یکن بناء العقلاء علی أهمّیّة هذه الموارد؛ فإنّ الأهمّ قد یفهم من بناء العقلاء و قد یفهم من الروایات تعبّداً. و هذا واضح.
و منها: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[21] عَنْ أَبِيهِ[22] عَنْ حَمَّادٍ[23] عَنْ حَرِيزٍ[24] عَنْ زُرَارَةَ[25] عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ[26] (ع) فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَقِيَّةً. قَالَ (ع): «لَا يُتَّقَى فِي ثَلَاثَةٍ» قُلْتُ: وَ مَا هُنَّ؟ قَالَ (ع): «شُرْبُ الْخَمْرِ أَوْ قَالَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَ مُتْعَةُ الْحَجِّ». [27]
الإشکال في الاستدلال[28] بالروایة
إن قلنا باعتبار رواية أبي الورد المتقدّمة و لو بأحد الوجهين المتقدّمين من عمل المشهور على طبقها أو لكون حمّاد بن عثمان الواقع في سندها من أحد أصحاب الإجماع، فلا إشكال في المسألة؛ لأنّ الرواية ناصّة في الجواز و الصحيحة ظاهرة في حرمة التقيّة في محلّ الكلام، فيجمع بينهما بحمل الظاهر على النص. و نتيجة هذا الجمع أنّ التقيّة في الأمور الثلاثة الواردة في الرواية أمر مكروه أو يحمل الصحيحة على غير الكراهة ممّا لا ينافي الرواية. و أمّا إذا لم نقل باعتبار الرواية و لم نعتمد عليها في الاستدلال، فهل يمكننا رفع اليد بصحيحة زرارة عن الإطلاقات و العمومات الواردة في التقيّة، نظراً إلى أنّ الصحيحة أخصّ منها مطلقاً، فهي توجب تقييدها لا محالة أو أنّ الأمر بالعكس، فلا بدّ من أن يرفع اليد عن الصحيحة بهذه الإطلاقات و العمومات؟ الثاني هو التحقيق و ذلك لأنّ الظاهر أنّ الصحيحتين المتقدّمتين لزرارة متّحدتان. [29]
أقول: لا بدّ من الجمع بین الروایات بحمل هذه الروایات علی بیان أهمّیّة هذه الثلاثة تعبّداً في مقام تزاحم الأهمّ و المهم، کما سبق؛ لأنّ عدم التقیّة فیها أصلاً غیر ممکن، کما في مقام تعارض ترك الصلاة مع مسح الخفّین، فلا بدّ من مسح الخفّین قطعاً. و هکذا ترك الحجّ مع ترك المتعة في الحج. و هکذا في تعارض شرب الخمر مع القتل و أمثالها؛ فلا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهم، لکن بیّن الشارع أهمّیّة هذه الثلاثة؛ لأنّها في نظر عرف ذلك الزمان قلیل الأهمّیّة ظاهراً. و لذا أکّد الشارع علی أهمّیّتها.
و منها: حَدَّثَنَا أَبِي (رحمة الله)[30] قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [31] قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ الْيَقْطِينِيُّ[32] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى[33] عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ [34] عَنْ أَبِي بَصِيرٍ[35] وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ[36] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي (ع) عَنْ جَدِّي (ع) عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) عَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ مِائَةِ بَابٍ مِمَّا يُصْلِحُ لِلْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ: «... لَيْسَ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَقِيَّةٌ ...».[37] [38] [39] [40] [41]
أقول: لا بدّ من حمل الروایة علی بیان أهمّیّة حرمة شرب المسکر و المسح علی الخفّین؛ فإنّ الظاهر أنّهما في ذلك العصر لا أهمّیّة لهما، فأکّد الشارع أهمّیّتهما تعبّداً، کما سبق.
و منها: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ‘: «التَّقِيَّةُ دِينِي وَ دِينُ آبَائِي إِلَّا فِي ثَلَاثٍ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَ تَرْكُ الْجَهْرِ بِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم». [42]
أقول: یلاحظ علی الاستدلال بها ما سبق في الملاحظات السابقة، مع أنّ السند ضعیف.
توجیهات و احتمالات لرفع التعارض
التوجیه الأوّل: اختصاص عدم التقیّة بالأئمّة (علیهم السلام) [43] [44] [45] [46] [47] [48] [49] [50]
قال الشیخ الطوسيّ (رحمة الله): «لا ينافي[51] الخبر الأوّل[52] في جواز التقيّة فيه؛ لأنّه يمكن أن يكون الوجه في هذا الخبر ما قاله زرارة؛ فإنّه قال[53] و لم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً». [54]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین من حیث بیان الاحتمال الذي یبطل الاستدلال.
و قال العلّامة الحلّيّ (رحمة الله): «لا منافاة بين الحديثين[55] في عدم التقيّة و جوازها؛ لاختصاص الأوّل[56] به (ع)».[57]
و قال السیّد الطباطبائيّ (رحمة الله): «ما ورد في المعتبرة من عدم التقيّة في المسح على الخفّين و متعة الحجّ - مع مخالفته الاعتبار و الأخبار عموماً و خصوصاً- يحتمل الاختصاص بهم (علیهم السلام) كما قاله زرارة في الصحيح».[58]
و قال الشیخ النجفيّ (رحمة الله): «لا ينافيه[59] ما في [الروایات الدالّة علی عدم جواز التقیّة][60] لما زاد في آخره في الكافي [61] قال زرارة: «و لم يقل الواجب عليكم ألا تتّقوا فيهنّ أحداً» فإنّه كالصريح في أنّ زرارة فهم عن مراد الإمام (ع) أنّ ذلك حكم خاصّ به و هو أدرى بتكليفه». [62]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین.
و قال الإمام الخمینيّ (رحمة الله): «يمكن أن يكون وجه الجمع هو أنّ الأئمّة (علیهم السلام) كانوا لا يتّقون في المذكورات؛ لكون الفتوى بحرمة النبيذ و المسح على الخفّين و جواز متعة الحجّ معروفاً عنهم بحيث يعرفه خلفاء الجور منهم. و ذلك لا يوجب عدم تقیّة الشيعة فیه أيضاً. و يؤيّده هذا الوجه ما في ذيل صحيحة زرارة من قوله: و لم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً». [63] [64]
أقول: کلامه (رحمة الله) متین.
الإشکال في هذا التوجیه
إنّ ما استنبطه «زرارة» في الرواية السابقة من أنّه (ع) لم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً؛ بل قال لا أتّقى فيهنّ أحداً. و كأنّه حسب ذلك من مختصّات الإمام (ع) ممنوع؛ فإنّ الحكم عامّ لكلّ أحد بعد وضوح مأخذ هذه الأحكام في الكتاب و السنّة و عدم الاضطرار إلى التقيّة فيها؛ فاستنباطه هذا في غير محلّه و إن كان هو من فقهاء أهل البيت (علیهم السلام) و أمنائهم (علیهم السلام) فإنّ الجواد قد يكبو و العصمة تخصّ بأفراد معلومين- عليهم آلاف الثناء و التحيّة. و يدلّ على ما ذكرنا ما رواه الصدوق في الخصال [65] بإسناده عن على (ع) في حديث الأربعمائة قال: «... لَيْسَ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَقِيَّة ...» فإنّ ظاهره عدم جواز التقيّة فيها على أحد. و كذلك رواية أبي عمر الأعجمي: «... التَّقِيَّةُ فِي كُلِ شَيْءٍ إِلَّا فِي النَّبِيذِ وَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ...»[66] فإنّ ظاهره أيضاً عموم الحكم لكلّ أحد. [67]
أقول: أوّلاً: أنّ فهم زرارة الذي هو من أفقه الأصحاب یوجب انعقاد الظهور في ذلك الزمان؛ فإنّ الظاهر حجّة. و المراد من الظاهر هو الظاهر في ذلك الزمان. و لذا لا بدّ في مراجعة کتب اللغة إلی الأقدمین القریبین بالمعصومین (علیهم السلام). و هذا کافٍ في حجّیّة الظواهر عندنا.
و ثانیاً: أنّ هذه الروایات بیان لأهمّیّة حرمة شرب النبیذ و الخمر و المسح علی الخفّین. و لعلّه في ذلك الزمان کان متداولاً شرب الخمر و النبیذ. و هکذا المسح علی الخفّین. و لذا أکّد المعصوم (ع) لأهمّیّتها تعبّداً، خلافاً لما هم المتعارف في ذلك الزمان؛ فهذا الإشکال غیر وجیه ظاهراً.
التوجیه الثاني
قال الشیخ الطوسيّ (رحمة الله): «يجوز أن يكون المراد به لا تقية فيه إذا كان الخوف لا يبلغ الفزع على النفس أو المال فإنه ينبغي أن يتحمل حينئذ المشقة اليسيرة و ينزع الخف». [68]
أقول: لا دلیل علی الاختصاص بالنفس أو المال؛ بل لا بدّ من إضافة الأعراض و الخوف علی الدین و أمثالهما؛ فإنّ الروایة في مقام بیان الأهمّیّة لهذه الموارد تعبّداً؛ لعدم تعهّد عوامّ الناس في ذلك الزمان بهذه الموارد. و لذا أکّد المعصوم (ع) علی أهمّیّها. هذا التوجیه حسن یوجب الاحتمال الذي یبطل به الاستدلال.
و قال العلّامة الحلّيّ (رحمة الله): «لا منافاة بين الحديثين في عدم التقيّة و جوازها [لاحتمال] انّه لا يتّقي تقيّة يسيرة لا تبلغ المشقّة العظيمة». [69]
و قال الشیخ النجفيّ (رحمة الله): «إنّ المراد بنفي التقيّة فيه مع المشقّة اليسيرة التي لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال». [70]
یلاحظ علیه: بالملاحظة السابقة.