بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

46/05/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: فقه النقد/التضخّم و انخفاض قیمة النقد /لزوم تدارك انخفاض القيمة

 

خلاصة الجلسة السابقة: کان الکلام في بحث الفقه المعاصر حول انخفاض قیمة النقد و أنّه هل یجب تدارك انخفاض قیمة النقد؟ الفقهاء مثل آیة الله السیستانيّ و آیةالله السبحانيّ و عدّة أخر لا یعتقدون بلزوم التدارك و ذکروا لرأیهم أدلّةً.

الدلیل الآخر

من إحدی أدلّة هؤلاء الفقهاء أنّه لم یذکر تدارك انخفاض القیمة في روایات أهل البیت (علیهم السلام) و لو وجب هذا التدارك لوجب بیانه في الروایات و إذا لم یجيء فیها علم أنّ غیر لازم.

هنا إشکال

کان النقد في زمن أهل البیت (علیهم السلام) من الذهب و الفضّة و له قیمة حقیقیّة و لم یکن ممّا انخفضت قیمته حتّی یسألوا عن المعصوم (علیه السلام) هل یجب تدارك انخفاض قیمة النقد أم لا فأجابهم بأن لا یجب التدارك. إذا کان النقد ذهباً و فضّةً، لا تنخفض قیمته. إذا سقطت حکومة فلا قیمة للنقود الاعتباريّة و لکن للنقود قیمة في الأزمنة السابقة و لو مع تغییر الحکومة؛ إذ هو من الذهب و الفضّة. و لأجل ذلك لم یبحث فقهاء صدر الإسلام حول هذه المسألة فإذاً هي مسألة مستحدثة.

نعم یصحّ أنّ بعض السلعات قد کان تغلو قیمتها في السابق و لکنّه لیس من التضخّم بشيء. لیس معنی التضخّم غلاء بعض السلعات بل هو غلاء جمیع السلعات أو أکثر السلعات و الخدمات.

إدعاء وجود التضخّم في صدر الإسلام

ثمّ إنّ هناك بعضاً یدّعون أنّ تدارك انخفاض القیمة قد جاء في الروایات. کما في ما روي أنّه «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله لَوْ أَسْعَرْتَ لَنَا سِعْراً فَإِنَّ الْأَسْعَارَ تَزِيدُ وَ تَنْقُصُ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ بِبِدْعَةٍ لَمْ يُحْدِثْ لِي فِيهَا شَيْئاً فَدَعُوا عِبَادَ اللَّهِ يَأْكُلْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ».[1]

قد سألوا النبيّ (صلّی الله علیه و آله و سلّم) لو عیّنت الأسعار حتّی لم یکن هناك تقلّب. قال النبيّ (صلّی الله علیه و آله و سلّم): لا أرید أن ألقی الله و قد أبدعت في الدین و لمّا یجيء أمر من الله فدعوا الناس حتّی یفعلون ما یشاؤون؛ فإنّهم یستفیدون بعضهم من بعض.

أستدلّ بهذه الروایة علی أنّ التضخّم موجود في صدر الإسلام. «الأسعار» أي جمیع القِیَم لها تقلّب. لم یتدخّل النبيّ (صلّی الله علیه و آله و سلّم) في أمر الناس حتّی یحددّوا الأسعار بالعرض و الطلب.

 

هنا إشکال: في رأینا هذه الروایة لا تبیّن مسألة التضخّم. تقول هذه الروایة إنّ بعض السلعات قد یزید أو ینقص سعرها. لیس في مسألة التضخّم رخص القِیَم. لم تصر السلعات في هذه السنین رخیصةً بل قد صارت الأسعار غالیةً. نعم یمکن أن تصیر رخیصةً بعضها فیفرح بعض بتنزّل السعر و لکنّهم یغفلون عن أنّه في مستوی ازدیاد القیمة. لا یدلّ قولهم «تزید و تنقص» علی التضخّم بل المراد غلاء بعض الأجناس و الشاهد علیه الروایات الأخری التي دلّت أنّ بعض السلعات کالحنطة قد صارت غالیةً في الحرب أو المجاعة.

الروایة الأولی: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي جَهْمَةَ عَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام وَ قَدْ تَزَيَّدَ السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ كَمْ عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ قَالَ قُلْتُ عِنْدَنَا مَا يَكْفِيكَ أَشْهُراً كَثِيرَةً قَالَ أَخْرِجْهُ وَ بِعْهُ قَالَ قُلْتُ لَهُ وَ لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ طَعَامٌ قَالَ بِعْهُ فَلَمَّا بِعْتُهُ قَالَ اشْتَرِ مَعَ النَّاسِ يَوْماً بِيَوْمٍ وَ قَالَ يَا مُعَتِّبُ اجْعَلْ قُوتَ عِيَالِي نِصْفاً شَعِيراً وَ نِصْفاً حِنْطَةً فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي وَاجِدٌ أَنْ أُطْعِمَهُمُ الْحِنْطَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَ لَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ قَدْ أَحْسَنْتُ تَقْدِيرَ الْمَعِيشَةِ».[2]

أمر الإمام (علیه السلام) ببیع الطعام لما فیه من ازدیاد العرض و تقلیل القِیَم.

لیس الأمر هکذا أنّ کلّ مسؤول لدیه مال فیلزم أن یعیش عیشاً أفضل بل علیه أن یعیش مثل الآخرین.

لا تدلّ هذه الروایة علی التضخّم بل تدلّ علی أنّ الحنطة قد صارت غالیةً في زمن خاص فلا یجوز حینئذٍ تخزین الحنطة. هذه الروایة شاهدة علی الروایة السابقة الدالة علی أنّ ما فیه التقلّب هو الحنطة لا جمیع السلعات.

النکتة التي یجب الالتفات إلیه أنّ الذهب و الفضّة کانا من السلعات و کلّما ازدادت قیمة السلعات ازدادت قیمتهما. و لکن الآن النقد منفصل عن السلعة؛ لذلك تزداد قیمة السلعة و تنخفض قیمة النقد.

الروایة‌ الثانیة: «عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ غَلَاءٌ وَ قَحْطٌ حَتَّى أَقْبَلَ الرَّجُلُ الْمُوسِرُ يَخْلِطُ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ وَ يَأْكُلُهُ وَ يَشْتَرِي بِبَعْضِ الطَّعَامِ وَ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام طَعَامٌ جَيِّدٌ قَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلَ السَّنَةِ فَقَالَ لِبَعْضِ مَوَالِيهِ اشْتَرِ لَنَا شَعِيراً فَاخْلِطْ بِهَذَا الطَّعَامِ أَوْ بِعْهُ فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَأْكُلَ جَيِّداً وَ يَأْكُلُ النَّاسُ رَدِيّاً».[3]

إن قبلنا دیدن المعصوم (علیه السلام) و عملنا به فسیؤول المجتمع إلی الخیر جدّاً. الآن یکون الناس ثمانون بمأة منهم فقراء و لا یستطیعون العیش براحة و یلجأون في آخر الشهر إلی الاستقراض. هل نعیش هکذا؟

هذه الروایة أیضاً مرتبطة بغلاء الحنطة في زمن خاصّ لا التضخّم و الغلاء في جمیع السلع.

الروایة‌ الثالثة: «و عن علي، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس وابن أبي عمير جميعا، عن أبي أيوب الخراز، عن محمد بن مسلم قال: ولد لابي جعفر عليه‌السلام غلامان جميعا، فأمر زيد بن علي أن يشتري له جزورين للعقيقة، و كان زمن غلاء، فاشترى له واحدة و عسرت عليه الاخرى، فقال لابي جعفر عليه‌السلام: قد عسرت علي الاخرى، فأتصدق بثمنها؟ قال: لا، اطلبها حتى تقدر عليها، فإن الله عز و جل يحب إهراق الدماء و إطعام الطعام».[4]

هذه الروایة أیضاً مرتبطة بسلعة خاصّة لا غلاء جمیع السلع؛ فیستفاد من مجموع الروایات أنّه قد کان یوجد في عصر أهل البیت (علیهم السلام) الغلاء في بعض السلع، لا التضخّم الذي هو بمعنی غلاء جمیعها.

 

 


[1] التّوحيد، الشيخ الصدوق، ج1، ص388.
[2] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص166.
[3] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص166.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج21، ص415، أبواب باب أنه لا يجزي التصدق بثمن العقيقة وان لم توجد، باب40، ح2، ط آل البيت.