44/07/23
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الفقه المعاصر/ المسائل المستحدثة في الأطعمة و الأشربة/ الجمع بین الروایات المتعارضة
خلاصة الجلسة السابقة: کان البحث في الفقه المعاصر حول حلّيّة لحم الخیل و البغال و الحمیر. و کان هناك تعارض بین الروایات و دارسنا کیف نرفع هذا التعارض. قد استحلّت طائفة من الروایات جمیع الأشیاء حیث جاء فیها «کلّ شيء لك حلال» و الآیات أیضاً قائلة بأن: ﴿يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِياهُ تَعْبُدُونَ﴾،[1] ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ الْمَيتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[2] . تحرم بناءً علی هذه الآیة الأخیرة أربعة أشیاء فقط؛ المیتة و الدم و لحم الخنزیر و ما أهلّ به لغیر الله- تعالی. و قال- تعالی- في آیة أخری: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِي إِلَي مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يكُونَ مَيتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.[3]
و في جانب آخر، توجد روایات قد حرّمت طائفةً من الحیوانات؛ مثل السباع و الحشرات و لم یذکرها القرآن بعنوان الحرام.
الطریق الأوّل لحلّ التعارض هو کلام شیخ الطائفة رحمهالله الذي قسّم المحرّمات بطائفتین مغلظة و غیرها؛ ما ذکرت في القرآن فهي المحرّمات المغلظة و ما ذکرت في الروایات فهي محرّمات غیرها.[4] قلنا في الجلسة السابقة إنّ هذا الرأي غیر مقبول.
الطریق الثاني لحلّ التعارض هو أن نحمل روایات حلّ جمیع الأشیاء علی التقيّة. قد ذهب إلی هذا المرأی کثیر من الفقهاء کصاحب الجواهر رحمهالله.[5] و الروایات المُحِلَّة موافقة للعامّة و الروایات المُحُرِّمة موافقة للخاصّة؛ فروایات الحلّ تحمل علی التقيّة.
کان الإشکال الأوّل في هذا المرأي هو أنّ هذا الحمل لا یمکن تطبیقه في کثیر من الموارد؛ إذ العامّة قد حرّموا أیضاً حیواناتٍ مثل السباع و الحشرات. کان الإشکال الثاني هو أنّ روایات الحلّ قد استدلّت بآیة القرآن؛ و التقيّة تکون في ما إذا ذکر الإمام المعصوم عليهالسلام کلاماً ذا وجهین یمکن فیه احتمالان و لکن إذا ذکر عليهالسلام حکماً صریحاً مع الاستدلال بآیة من القرآن فلیس هو من التقيّة؛ کما في قول الباقر عليهالسلام في روایة مستدلّاً بآیة من القرآن و هو قوله: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليهالسلام عَنِ الْجِرِّيثِ فَقَالَ وَ مَا الْجِرِّيثُ فَنَعَتُّهُ لَهُ فَقَالَ ﴿لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾[6] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ شَيْئاً مِنَ الْحَيَوَانِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْخِنْزِيرَ بِعَيْنِهِ وَ يُكْرَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُ قِشْرٌ مِثْلُ الْوَرَقِ وَ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ».[7]
کان الإشکال الثالث هو أنّك و لو تتمکّن من حمل الروایات علی التقيّة فلا طریق لك في حمل آیة القرآن علی التقيّة.
قد حصّر القرآن المحرّمات صریحاً. کلّ مورد أخرجه القرآن من هذا الانحصار قبلناه و لکن أین الدلیل في قبول ما خرج بالروایات المتعارضة؟ إذا حُرِّم شيء في روایة و لم یذکر حکمه في القرآن و أحلّ روایة أخری ذاك الشيء، وجب الأخذ بالروایة الموافقة للقرآن أو إذا شککنا في حکم حیوان فمع الإلتفات إلی الآیة نجري أصالة الحلّيّة؛ فلنجعل الأصل في المأکولات الحلّ لا الحرمة. من أهمّ المرجّحات لباب التعارض، الأخذ بما وافق العام أو مطلق القرآن، بینا أنّ ما نحن فيه یوافق صریح القرآن فبطریق أولی یجب الأخذ به.
طریق الجمع الثالث
الطریق الثالث للجمع الذي بیّنه العلماء کالعلّامة المجلسيّ رحمهالله هو أن یقال: روایات الحلّ شاذّة و روایات الحرمة مشهورة؛ قال رحمهالله: «و يؤيّد أخبار الحرمة، الشهرة بين أصحابنا»[8] و حیث عمل المشهور بروایات الحرمة، ترکنا روایات الحلّ؛ کما روي «خذ بما اشتهر بین أصحابك».
إشکال هذا الجمع
برأینا إنّ هذا الجمع غیر صحیح أیضاً؛ فإنّه کما لدینا «خذ بما اشتهر بین أصحابك» کذلك لدینا «خذ بما وافق القرآن». قد یعبّر أنّه یجب طرح الروایات المخالفة للقرآن أو قیل اضربها علی الجدار. الموافقة مع المشهور هي في مقام التعارض و لکنّ الموافقة مع القرآن في مقام الحجّة و اللاحجّة؛ ما وافق القرآن فهو حجّة و ما لم یوافقه فلیس بحجّة أصلاً. لا یکون هنا تعارض بین الروایات بل التعارض بین الآیة و الروایة. قد حصّرت المحرّمات في الآیة بلفظة «إنّما» و قد حرّمت الروایة ما لم یذکر في الآیة؛ فهذه مخالفة مع القرآن.
طریق الجمع الرابع
قال بعض: طائفة من المحرّمات قرآنيّة و طائفة منها غیرها؛ یذکر بعض المحرّمات في القرآن و بعضها في الروایات.
قال الصادق عليهالسلام: تعاد الصلاة لخمسة أشیاء: 1. الطهارة ]إذا لم یکن متوضّأً و لم یأت بالصلاة[؛ 2. إذا أتی بالصلاة قبل دخول الوقت؛ 3. إذا صلّی مستدبراً؛ 4. إذا لم یأت بالرکوع؛ 5. إذا لم یأت بالسجدتین المتوالیتین.
ثمّ قال الإمام عليهالسلام: القرائة و التشهّد و التکبیر (مع کونها واجبةً) من السنّة؛]یمكن انجبارها إذا نسي کلّ واحد منها[.
ما ذکر من أجزاء الصلاة في القرآن، فهو رکن و ما ذکر في الروایات فهو غیره. یستفاد من هذه الروایة أنّ الواجبات قسمان: واجبات تذکر في القرآن و هي أرکان؛ واجبات لم تذکر فیه و هي غیرها. في محلّ البحث أیضاً توجد محرّمات قد ذکرت في القرآن و هناك محرّمات لم تذکر في القرآن. هذا المرأی قریب ممّا ذکره الشیخ الطوسيّ رحمهالله من أنّ المحرّمات تقسّم بالمغلظة و الخفيفة.
إشکالان علی هذا الجمع:
الإشکال الأوّل: هذا المرأی صحیح إذا لم یکن حصر في آیة القرآن؛ فقد جاء حصر في القرآن قال إنّ المحرّمات هذه الموارد فقط و لا حرام غیرها.
الإشکال الثاني: قد استند الإمام عليهالسلام في الروایة لحلّيّة الحمار بالحصر الموجود في الآیة حتّی یقول إنّ لحم الحمار حلال؛[9] ثمّ إنّه عليهالسلام قوّی الحصر و به یحلّ کثیر من الأشیاء. قد استند عليهالسلام أیضاً لحلّيّة الأسماك بآیة القرآن.[10] معنی هذه الروایات هو أنّ الأصل هو الحلّ. إن کان هناك قسمان من الحلال و الحرام فلا حاجة في أن یستند الإمام عليهالسلام للحلّيّة بالقرآن؛ إذ الحصر عند الإمام عليهالسلام مقبول. فمن الجدیر إن یتفاوت الحلال الرواييّ و الحلال القرآنيّ أن یسأل السائل عن الإمام عليهالسلام أ هو من الحلال القرآنيّ أم الروايي؟
طریق الجمع الخامس
ذکر المحقّق النراقيّ رحمهالله أستاذ الشیخ الأنصاريّ رحمهالله احتمالاً و هو أنّه: للقرآن ظاهر و باطن. قد ورد في الروایات أنّه لا یعلم باطن القرآن إلّا الراسخون في العلم و هم الأئمّة:؛ نحن نقدر علی فهم ظواهر القرآن و لا یمکن لنا فهم بواطنه. قد بیّن القرآن کلّ شيء کما قال الله- تعالی: ﴿تِبْياناً لِكُلِّ شَيءٍ﴾[11] و الإمام المعصوم عليهالسلام هو الذي یستطیع أن یفهم هذه البواطن من القرآن. إذا أحلّ روایة شيئاً أو حرّمه و لیس في ظاهر القرآن فهو من باطن القرآن الذي بیّنه الإمام عليهالسلام.
إشکال هذا الجمع
لا یحلّ هذا المرأی، مشکل التعارض؛ إذا کانت هناك طائفتان من الروایات متعارضتین فکیف نعمل؟ نعم إذا کانت هناك روایة تدلّ علی حرمة شيء و لم یوجد له معارض فکلّ یقبلونه و لکنّ البحث في ما إذا کانت هناك طائفتان صحیحتان إحداهما أحلّت شيئاً و أخراهما حرّمته. نحن نقول یجب الأخذ بما وافق القرآن و هو الحلّ و لکنّ بعض الفقهاء یأخذ بما وافق المشهور.
قال العلّامة المجلسيّ رحمهالله: «المعنى ما حرّم الله في القرآن أعمّ من أن يكون في ظهر القرآن و نفهمه أو في بطنه و بيّنه الحجج: لنا».[12]
قال المحقّق النراقيّ رحمهالله: «إذ كلّ ما يحكم بحرمته في غير القرآن لا بدّ و أن يكون في القرآن أيضاً و إن لم نعرفه؛ لأنّ فيه تبيان كلّ شيء».[13]