آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالكتاب

الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[1]

والاستدلال بالآية الكريمة ان الله تعالى علم نبيه الأكرم(ص) كيفية المحاجة مع اليهود الذين يدعون محرمات أخرى في الشريعة المقدسة غير ما هو موجود في الآية الكريمة فإن الله تعالى علم طريق المحاجة معهم فقال الله: قل لهم لا أجد فيما أوحي إلي محرما.

ويمكن تصوير ذلك على مجموعة من النكات:

النكتة الأولى: أن الله تعالى حينما علّم نبيه الأكرم بهذه الكيفية من المحاجة مع اليهود وهي العدول من التعبير بعدم الوجود إلى التعبير بعدم الوجدان مع ان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ولكن مع ذلك قال النبي(ص): لا أجد فيما اوحي إلي محرما أي ما اوحى الله تعالى إلي غير ما هو موجود في الآية المباركة وبطبيعة حال هناك محرمات في الشريعة المقدسة ما اوحى الله تعالى لنبيه بها وفي رسالته موجودة تلك المحرمات ولكن ما أوحى الله تعالى بهذه المحرمات الى حين صدور هذه الآية المباركة وإلا فمن الواضح ان جميع الشريعة مما اوحى الله تعالى بها على نبيه فلا محالة يكون الوحي بالتدريج وليس بالدفعة وكذا في رسالة النبي الأكرم المشتملة على جميع الأحكام الشرعية ما أوحى الله تعالى جميع ما في الرسالة الى النبي الأكرم(ص) مرة واحدة فإنه غير معقول ومن هنا يكون الوحي بالتدريج على طول عشرين سنة إلى تمام الدين بما له من الأحكام.

فنكتة قول النبي الأكرم(ص) بذلك بعد تعليم الله له هي أنه لا اجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه المحرمات الموجودة في الآية الكريمة لأن نزول الوحي كان تدريجيا وإلا فهناك محرمات موجودة في الشريعة المقدسة وفي أم الكتاب وفي الرسالة. هذه هي النكتة من العدول بالتعبير عن عدم الوجود الى عدم الوجدان.

النكتة الثانية: ان اليهود لا يصدقون بالنبي الأكرم(ص) سواء علمه بكيفية المحاجة معهم بعدم الوجود او كيفية المحاجة معهم بعدم الوجدان ولكن حيث إن عدم الوجدان أفصح وأوقع في النفوس في مقام المحاجة ولهذا عدل عن عدم الوجود الى عدم الوجدان ولعل النكتة في العدول هو هذا وإلا في النبي الأكرم(ص) لا فرق بين التعبير بعدم الوجدان والتعبير بعدم الوجود لأن عدم وجدانه مساوق لعدم الوجود.

النكتة الثالثة: ان الظاهر من الروايات أن الآية الكريمة لا تختص بموردها فإن مورد الآية المحاجة مع اليهود بل الآية في مقام بيان كبرى كلية وتطبيق تلك الكبرى على المقام فالعدول من عدم الوجود إلى عدم الوجدان لنكتة عامة وهي أن عدم الوجدان في الشبهات الحكمية إذا كان من النبي الأكرم(ص) او من الأئمة الأطهار(ع) فهو يدل على الترخيص الواقعي أي إطلاق العنان واقعا واما إذا كان عدم الوجدان من غير المعصوم كالفقهاء والمجتهدين إذا قاموا بالفحص في الشبهات الحكمية عن وجود الدليل على الحكم الشرعي من الوجوب او التحريم ولم يجدوا الدليل فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

فعدم وجدانه يفيد الترخيص الظاهري ويفيد إطلاق العنان الظاهري وهو مفاد أصالة البراءة الشرعية.

وعلى ضوء هذه النكتة العامة يمكن الاستدلال بالآية الكريمة على أصالة البراءة الشرعية أي إذا قام الفقهاء والمجتهدين بالفحص في الشبهات الحكمية عن الدليل ولم يجدوا الدليل على الوجوب أو الحرمة فيها مع احتمال وجوده فعندئذ لا مانع من التمسك بأصالة البراءة لإثبات الترخيص في هذه الشبهات فيجوز الإتيان في الشبهة التحريمية ويجوز الترك في الشبهة الوجوبية ظاهرا بمقتضى أصالة البراءة الشرعية.

واما على ضوء النكتتين الأوليين فالآية أجنبية عن الدلالة على أصالة البراءة الشرعية.

وهنا تعليقان على دلالة الآية المباركة على أصالة البراءة الشرعية:

التعليق الأول: ان المذكور في الآية الكريمة عدم وجدان النبي الأكرم(ص) ومن الواضح ان عدم وجدانه مساوق لعدم الوجود في الواقع فإذاً لا شك في المقام في ثبوت الواقع وعدم ثبوته حتى يتمسك بأصالة البراءة.

ولكن هذا التعليق غير صحيح؛ فإن هذا التعليق مبني على الغفلة عن النكتة العامة وهي أن العدول من عدم الوجود الى عدم الوجدان مبني على نكتة عامة ولا يمكن ان يكون جزافا وهي ان عدم الوجدان إذا كان من المعصومين فهو مساوق لعدم الوجود وأما إذا كان من غير المعصومين فهو غير مساوق لعدم الوجود فاحتمال الوجود موجود وعندئذ لا مانع من التمسك بأصالة البراءة الشرعية.

هذا مضافا إلى أن في هذا التعليق تخيل اختصاص الآية الكريمة بموردها وهو عدم وجدان النبي الأكرم(ص) ومن الواضح ان المورد لا يكون مخصصا ولا مقيدا.

فالنتيجة ان هذا التعليق غير وارد، فلو فرضنا ان النكتة العامة هي الأظهر من الآية الكريمة فلا مانع من التمسك بأصالة البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية بعد الفحص وعدم وجدان الدليل على الحكم الشرعي، واما إذا قلنا أن الأظهر هو النكتة الأولى دون النكتة الثالثة العامة فتكون الآية أجنبية عن المقام.

التعليق الثاني: ما ذكره بعض المحققين[2] (قده) على ما في تقرير بحثه من ان عدم وجدان النبي الأكرم(ص) بالنسبة الى ما وصل إليه بالوحي ( لا أجد فيما أوحي إلي) ولم ينف ما شرع من قبله وإنما نفى ما اوحى الله تعالى به واما ما شرعه فهو لم ينف ذلك.

ولكن لا يمكن الاعتماد على ذلك أيضا فإن النبي الأكرم(ص) إنما يكون مشرعا بالوحي او بنزول جبريل عليه لا مستقلا بدون وصول الوحي من الله تعالى إليه أو بدون نزول جبريل.

فالنتيجة: أن الآية لو لم تكن ظاهرة في النكتة الأولى فلا مانع من حملها على النكتة الثالثة وهي أن تعليم الله تعالى لنبيه الأكرم بكيفية مخاطبة اليهود بعدم الوجدان بعد العدول من المخاطبة بعدم الوجود لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة والنكتة هي نكتة عامة عرفية وهي ان عدم الوجدان إذا كان من المعصومين فهو مساوق لعدم الوجود ولا موضوع حينئذ لأصالة البراءة الشرعية واما عدم الوجدان إذا كان من غير المعصومين كالفقهاء والمجتهدين فلا يساوق عدم الوجود ولا يدل على عدم الوجود فهو منشأ للشك في ثبوت الحكم الشرعي وعدم ثبوته فلا مانع من التمسك بأصالة البراءة.


[1] سورة الانعام، آية145.
[2] بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد الصدر للسيد الشاهرودي، ج5، ص34.