آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/06/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أصالة البراءة

ذكرنا أن الموصول مستعمل في معناه الموضوع له وهو الشيء المبهم من جميع الجهات وتعيينه إنما يكون بصلته أو بقرينة أخرى كقرينة السياق او ما شاكل ذلك، فالموصول في الآية المباركة مبهم وتعيينه في مصاديقه وأفراده بحاجة إلى قرينة.

وعلى هذا فالقرينة تدل على التعيين واما الموصول فهو مستعمل في معناه الموضوع له فيكون المقام من باب تعدد الدال والمدلول.

ثم إن المراد من الموصول في الآية المباركة هو المال بقرينة وقوع هذه الآية في سياق قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[1] فالسياق قرينة على ان المراد منه المال ويمكن ان يراد منه الفعل مع وجود القرينة على ذلك كما يمكن أن يراد منه التكليف.

وعلى هذا فإن كان المراد من الموصول المال أو الفعل فالمراد من (آتاه) هو القدرة واما إذا كان المراد منه التكليف فيكون المراد من آتاه هو الإيصال.

وعليه فلا مانع من الاستدلال بالآية الكريمة على اصالة البراءة الشرعية لأن معنى الآية على هذا هو أن الله تعالى لا يكلف نفسا بكلفة التكليف إلا بعد إيصاله إليه فإن كان التكليف واصلا إلى المكلف بالعلم الوجداني او بالعلم التعبدي فهو حجة ويكون المكلف مسؤول عن امتثال هذا التكليف وإطاعته فلو خرج عن طاعته فهو معاقب واما إذا لم يصل التكليف الى المكلف وكان مجرد احتمال وشكٍ فهو موضوع لأصالة البراءة الشرعية فلا مانع من التمسك بأصالة البراءة الشرعية لنفي احتمال العقوبة باعتبار ان احتمال التكليف ولو كان في الشبهة الحكمية بعد الفحص فهو مساوق لاحتمال العقوبة إذا لم يكن هنا أصل مؤمن وأصالة البراءة من الأصول المؤمنة وهي واردة عل هذا الاحتمال ورافعة له وجدانا ومع جريان أصالة البراءة يكون احتمال العقاب مفقود وعلى هذا فلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأن الموصول مستعمل في معناه الموضوع له ولكن تطبيقه تارة على التكليف وأخرى على المال أو الفعل فهو بدال آخر فيكون من باب تعدد الدال والمدلول.

قد يقال كما قيل: أن لازم ما ذكر هو استعمال اللفظ في أكثر من واحد بالنسبة إلى لفظ آتاه فإن كان المراد من الموصول التكليف فآتاه مستعمل في الإيصال وإن كان المراد من الموصول المال أو الفعل فآتاه مستعمل في القدرة فيلزم استعمال لفظ أتاه في أكثر من معنى واحد وهو مستحيل.

ويمكن الجواب عن ذلك: ان لفظ آتاه مستعمل في الجامع بينهما وهو عنوان أحدهما وتطبيقه على كل من الإيصال والقدرة بحاجة الى قرينة والقرينة على ذلك إن كان المراد من الموصول المال أو الفعل فهو قرينة على أن المراد من آتاه هوة القدرة وإن كان المراد منه التكليف فهو قرينة على أن المراد من آتاه هو الإيصال فلا يلزم محذور استعمال اللفظ في أكثر من واحد.

وثانيا: مع الإغماض عن ذلك فقد ذكرنا في مستهل بحث الأصول أنه لا مانع ثبوتا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وذكرنا هناك تفصيلا غاية الأمر أنه في مقام الإثبات بحاجة إلى قرينة تدل على أنه مستعمل في أكثر من معنى واحد واما ثبوتا فلا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، وعليه لا مانع من أن يكون لفظ أتى مستعمل في أكثر من معنى واحد ولكن في مقام الإثبات تعيين كل من المعنيين بحاجة إلى قرينة والقرينة في المقام موجودة فإن كان المراد من الموصول التكليف فهو قرينة على أن المراد من آتاه هو الإيصال وإن كان المراد من الموصول الفعل او المال فهو قرينة على ان المراد من آتاه هو القدرة والتمكن.

فالنتيجة انه لا مانع من الاستدلال بهذه الآية الكريمة على أصالة البراءة الشرعية إذا كانت هناك قرينة على ان المراد من الموصول التكليف.

ثم ان شيخنا الأنصاري(قده)[2] قد أورد على دلالة هذه الآية على أصالة البراءة الشرعية وحاصل ما ذكره(قده): أن كان المراد من الموصول في الآية المباركة التكليف فنسبة الفعل(آتاها) إلى المفعول المطلق وإن كان المراد من الموصول المال او الفعل فنسبة الفعل نسبة الى المفعول به وهما نسبتان متباينتان فلا يمكن اجتماعهما في جملة واحدة ولا يمكن اسنادا الفعل الى المفعول المطلق واسناده الى المفعول به معا في جملة واحدة لأنهما نسبتان متباينتان فلا بد أن يكون المراد من الموصول إما التكليف او المراد منه الفعل والمال ولا يمكن الجمع بينهما وإلا لزم ان تشتمل الجملة على نسبتين متباينتين وهو مما لا يمكن الالتزام به.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق العراقي(قده)[3] وهو ان النسبة في هذه الجملة مستعملة في الجامع بين النسبة الى المفعول المطلق والنسبة الى المفعول به وعندئذ لا يلزم ما ذكر لاشتمال الجملة على نسبة واحدة وهو الجامع وتعيين كل واحدة من النسبتين بحاجة على قرينة.

وللمناقشة فيه مجال واسع: فقد ذكرنا في بحث الحروف أن الجامع الذاتي بين انحاء النسب والروابط غير معقول لأن انحاء النسب والروابط متباينات بالذات فلا يعقل وجود جامع حقيقي بينها لأنه ليس للنسبة ماهية متقررة في المرتبة السابقة على الوجود كما هو الحال في المعنى الاسمي الذي يكون لماهيته تقرر قبل الوجود فقد يوجد في الخارج وقد يوجد في الذهن، وليس النسبة كذلك فليس لها تقرر لا في الخارج ولا في الذهن حتى يمكن أن توجد في الخارج ويمكن ان توجد في الذهن وهذه الماهية هي الجامعة بينهما. ليس الأمر كذلك في انحاء النسب لأن النسبة متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها ولا ذات للنسبة إلا بذات طرفيها ولا وجود لها الا بوجود طرفيها فكل نسبة في كل جملة مباينة للنسبة في الجملة الأخرى فإذا قيل ضرب زيد وضرب عمرو فهما نسبتان متباينتان فالنسبة الأولى متقومة بشخص وجود طرفيها والنسبة الثانية أيضا كذلك وشخص وجود طرفيها من المقومات الذاتية للنسبة وبمثابة الجنس والفصل للنوع.

وعلى هذا تكون النسبة متقومة ذاتا ووجودا بشخص وجود طرفيها فإن كان طرفيها في الذهن فالنسبة ذهنية وإن كان طرفاها في الخارج فالنسبة خارجية ولا شان لها إلا بشان طرفيها ولا وجود لها إلا بوجود طرفيها. وليس للنسبة مقومات ذاتية فإن المقومات الذاتية للنسبة شخص وجود طرفيها فإذا قيل: (ضرب زيد) وبعد ذلك قيل: (ضرب زيد) فهما نسبتان فالنسبة الأولى متقومة بشخص وجود طرفيها وكذلك النسبة الثانية.

وليس انحاء النسب كأفراد الإنسان فإن أفراد الإنسان مشتركة في المقومات الذاتية التي هي في المرتبة السابقة على وجود هذه الأفراد وهي الحيوانية والناطقية وإلغاء جميع خصوصيات الأفراد لا يوجب إلغاء المقومات الذاتية لها فإذا فرضنا ان جميع أفراد الإنسان بتمام خصوصياتها ملغية ولكن المقومات الذاتية وهي الحيوانية والناطقية باقية فلا يعقل إلغاؤها بينما انحاء النسب ليست كذلك فإنها لا تكون مشتركة في المقومات الذاتية بل كل نسبة متقومة بشخص وجود طرفيها ومن الواضح أن شخص وجود طرفيها مباين لشخص وجود طرفي نسبة أخرى ولهذا تكون كل نسبة مباينة لنسبة اخرى وجودا.

وما ذكره المحقق العراقي(قده) من تصوير الجامع لا يرجع الى معنى محصل.


[1] سورة الطلاق، آية 7.
[2] فرائد الاصول، ج2، ص21.
[3] نهاية الافكار، تقرير بحث المحقق العراقي للشيخ البروجردي، ج3، ص203.