آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/05/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أصالة البراءة

إلى هنا قد تبين أن ما ذكره المحقق النائيني(قده) من أن للقطع أربع حيثيات:

الأولى: حيثية الاستقرار والثبات المترتب على القطع بشيء وهذا أمر تكويني ولا شبهة فيه وغير قابل للجعل.

الثانية: حيثية طريقية القطع وكاشفيته وهي ذاتية للقطع بل هي عين القطع فإن القطع عبارة عن الكشف عن الواقع وليس له معنى أخر غير الكشف والطريقية، وهذه الطريقية قابلة للجعل.

ولكن تقدم الكلام في هذا الجعل وقلنا أن الطريقية التكوينية غير قابلة للجعل فلا يمكن ان يتعلق الجعل التشريعي بالأمر التكويني ولا يعقل أن يكون المجعول أمرا تكوينيا والجعل أمرا تشريعيا اعتباريا لأن الجعل عين المجعول فلو كان المجعول أمرا تكوينيا فلا بد أن يكون الجعل أيضا كذلك كالإيجاد والوجود فإن الإيجاد عين الوجود وهما أمران تكوينيان أحدهما عين الآخر والاختلاف بينهما بالاعتبار فلا يعقل ان يكون الجعل أمرا اعتباريا والمجعول أمرا تكوينيا.

واما جعل الطريقية الاعتبارية فقد ذكرنا أنه لا قيمة له إذ لا وجود له في الخارج غير وجوده في عالم الاعتبار والذهن فلا أثر له وهو لا يعدو عن كونه مجرد لقلقة لسان فلا تأثير لهذا الجعل في الخارج أصلا على تفصيل تقدم الكلام فيه.

الثالثة: وهي حيثية التنجيز والتعذير الموجود في الأصول غير المحرزة باعتبار أنها معذرة ومنجزة كأصالة البراءة أصالة الاحتياط.

الرابعة: وهي الجري العملي على طبق الأصل وهذه الحيثية موجودة في الأصول المحرزة كأصالة الاستصحاب.

فيقع الكلام في هاتين الحيثيتين، فيقع:

أولا: في الفرق بين الأصول المحرزة والأصول العملية غير المحرزة.

وثانيا: النظر إلى ما هو المجعول في الأصول المحرزة وما هو المجعول في الأصول غير المحرزة.

أما الأمر الأول: فتارة يقع الكلام في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات.

أما الكلام في مقام الثبوت

فتارة يقع في الأصل المحرز كالاستصحاب وأخرى في سائر الأصول.

أما الاستصحاب: فمورده الحالة السابقة وإذا حللنا هذه الحالة لا نجد فيها ما يبرر كون الاستصحاب من الأصول المحرزة لأن الحالة السابقة مشتملة على نقطتين:

النقطة الأولى: اليقين بحدوث الحالة السابقة.

النقطة الثانية: نفس حدوث الحالة السابقة بقطع النظر عن تعلق اليقين به.

أما النقطة الأولى: فاليقين بحدوث الحالة السابقة لا يمكن بقاؤه في ظرف الشك لأن شأن اليقين الكشف عن الواقع على ما هو عليه ولا تأثير لليقين على الواقع بما هو عليه كما لو علم الإنسان بأن زيدا عادل أو عالم أو فاسق فإن علمه بأحد هذه الأمور لا يؤثر في وجوده في الواقع بعد ان لم يكن موجودا فإن العلم مجرد الكشف عن الواقع على ما هو عليه بما له من المبادئ وبما له من العلة ولا تأثير للقطع أصلا.

ومن هنا لا يقتضي اليقين بالحالة السبقة بقاؤه في ظرف الشك لأنه مجرد كشف ولا تأثير له في الواقع. ولو تنزل وسلم ذلك وفرضنا أن اليقين مؤثر في الواقع ولكن مع ذلك يستحيل ان يكون اليقين بالحالة السابقة مقتضيا لبقائها في ظرف الشك وذلك لمحذورين:

المحذور الأول: انفكاك المعلول عن العلة فإن اليقين بالحدوث قد زال في ظرف الشك في البقاء ففي هذا الظرف لا يوجد يقين للمكلف فلو كان مؤثرا في بقاء الحالة السابقة في ظرف الشك لزم انفكاك الأثر عن المؤثر والمعلول عن العلة وهو مستحيل لأن مبدأ التعاصر بين العلة والمعلول من الأوليات البديهية.

وعليه لا بد أن يكون المعلول معاصر للعلة زمنا ولا يمكن ان يكون متأخرا عنها كذلك فمن أجل ذلك لا يمكن ان يكون اليقين بحدوث الحالة السابقة مؤثرا ومقتضيا لبقائها في ظرف الشك.

المحذور الثاني: أن اليقين في ظرف الشك غير موجود فاليقين بالحدوث لا يمكن ان يكون مؤثرا في البقاء في ظرف الشك لاستحالة تأثير المتقدم زمنا بالمتأخر كذلك، فالمتحقق في ظرف الشك هو عدم اليقين ولازم ذلك أن يكون عدم اليقين بالحدوث في ظرف الشك هو المؤثر في بقاء الحالة السابقة في هذا الظرف وهذا أيضا مستحيل فإنه لا يعقل أن يكون العدم مؤثرا وعلة لأن السنخية بين العلة والمعلول أمر ضروري ومن القضايا الأولية البديهية باعتبار خروج المعلول من نفس العلة ووجوده وجود لنفس العلة ولكن بمرتبة نازلة فهو إذاً ليس شيئا أجنبيا عن العلة فلا يعقل أن يكون العدم مؤثرا.

وعلى هذا فاليقين بالحدوث لا يقتضي بقاء الحالة السباقة في ظرف الشك أصلا.

واما النقطة الثانية: وهي حدوث الحالة السابقة فحدوث الحالة السابقة هو وجودها الأول ويعبر عنه بالحدوث والبقاء عبارة عن الوجود الثاني، فكما أن الوجود الأول بحاجة إلى العلة كذلك الوجود الثاني بحاجة إلى العلة لأن سر حاجة الأشياء إلى العلة كامن في وجودها الإمكاني فهو الذي يجعلها محتاجة إلى العلة ولا فرق في هذا الأمر بين الوجود الأول والوجود الثاني فكما ان الوجود الأول وجود إمكاني فكذلك الوجود الثاني.

وعليه: فكما أن حدوث الحالة السابقة بحاجة إلى العلة كذلك بقائها – الذي هو الوجود الثاني – بحاجة إلى العلة ولا نعلم ان علته موجودة او غير موجودة فكيف يكون الحدوث أمارة على البقاء مع انه بحاجة إلى العلة والبقاء بحاجة إلى علة أخرى فكلا من الوجودين بحاجة إلى علة؟!

ودعوى أن الشيء إذا حدث دام واستمر لا أصل لها لأن الشيء إذا حدث فقد يدوم وقد لا يدوم فدوامه بحاجة إلى علة كما أن حدوثه بحاجة إلى علة ولا يمكن ان يكون بقاؤه جزافا وبدون علة.

نعم على القول المنسوب إلى المتكلمين والمعتزلة من ان سر حاجة الأشياء إلى العلة هو حدوثها لا وجودها الإمكاني يمكن القول بان حاجة الأشياء إلى العلة هو في حدوثها - وهو الوجود الأول - فقط وأما في البقاء الذي هو الوجود الثاني للأشياء فلا تحتاج إلى العلة.

ولكن لا يمكن الالتزام به لأن لازم هذا القول أن بقاء الأشياء يكون لازم الوجود لأنه على الفرض ليس بحاجة إلى العلة وكل ما يكون كذلك فهو واجب الوجود، وهو ما لا يمكن الأخذ به لأن مبدأ العلية مبدأأأ عام سارٍ في جميع الأشياء.

ومن هنا قلنا في بحث الجبر والتفويض أن المعتزلة قد أسرفت في تحديد مبدأ العلية بتخصيصه بحدوث الأشياء فقط تبعا للمتكلمين، وهو خلاف الضرورة كما أن الأشاعرة اسرفت في تعميم مبدا العلية حتى جرى هذا المبدأ في أفعال المكلفين.

فإذاً هو مبدأ عام ولا يمكن تخصيصه بالحدوث فقط لأن الأشياء بحاجة إلى العلة في وجودها الإمكاني ولا فرق بين الوجود الأول والوجود الثاني فكما ان الوجود الأول وجود ممكن فكذلك الوجود الثاني وجود محتاج إلى العلة.

فالنتيجة انه لا يوجد في الحالة السابقة في مورد الاستصحاب نكتة تبرر كون الاستصحاب من الأصول المحرزة.

وعليه لا يكون الاستصحاب من الأصول المحرزة إذ لا يوجد في مورده ما يبرر كونه أمارة وطريقا وكاشفا عن الواقع.

هذا كله بحسب مقام الثبوت.

واما في مقام الإثبات

فأن النهي الوارد في أدلة الاستصحاب كقوله(ع): (لا تنقض اليقين بالشك)[1] أو (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك)[2] لا شبهة في أنه ليس نهيا مولويا تكليفيا لأن نقض اليقين بالشك امر قهري وغير قابل لتعلق النهي المولوي به، وعليه فيرجع النهي في أدلة الاستصحاب إلى أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يكون النهي فيها نهيا إرشاديا إلى تعيين وظيفة المكلف في موارد الاستصحاب وهي العمل على طبق الحالة السابقة وليس الإرشاد إلى طريقية الاستصحاب لما تقدم من أنه لا يوجد في مورد الاستصحاب ما يصلح للطريقية، وليس في هذا ما يبرر جعل الاستصحاب طريقا، وحاله في هذا حال الاحتمال والوهم في عدم الطريقية، وما هو صالح للطريقية هو قوة الاحتمال بدرجة الكشف ومع تساوي الاحتمالين فلا يصلح كلا منهما للطريقية.

فالنتيجة: ان مفاد النهي في روايات الاستصحاب هو الإرشاد إلى تعين وظيفة المكلف وهي العمل على طبق الحالة السابقة.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص245، ابواب نواقض الوضوء، باب1، ح1(ط: آل البيت).
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص466، ابواب النجاسات والآواني والجلود، باب37، ح1(ط: آل البيت).