آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أصالة البراءة

تحصل مما ذكرنا أن الفرق بين الأمارات والأصول العملية الشرعية إنما هو في مقام الثبوت وفي المرتبة السابقة على الجعل وإن قلنا بأن مثبتات الأمارات لا تكون حجة ولكن مع ذلك تختلف الأمارات عن الأصول العملية في مقام الثبوت لأن أمارية الأمارة مقومة ذاتية للأمارات فهي بمثابة الفصل المقوم لها فلا يعقل صدق الأمارة على الاحتمال أو على الوهم او على الاحتمالين المتساويين تكوينا فأمارية الأمارات مقومة ذاتية لها وهي بمثابة الفصل المقوم.

فمصب وموضوع حجية الأمارة قوة الاحتمال بدرجة الكشف وأما الأصول العملية الشرعية فموضوعها حقيقة وواقعا تحيّر المكلف وعدم علمه بالوظيفة لا كما وكيفا من جهة جهله بالواقع وكونه شاكا فيه فمن اجل ذلك يكون متحيرا فتحيره هو موضوع حجية الأصول العملية الشرعية.

هذا هو الفرق ثبوتا بين الأصول العملية الشرعية وبين الأمارات بقطع النظر عن أن المجعول الطريقية والكاشفية أو أن المجعول هو الحكم الظاهرية أو المنجزية والمعذرية وسواء قلنا بحجية مثبتات الأمارات أو لم نقل لأن حجية مثبتات الأمارات من جهة اخرى وهي أن لسان الأمارة ان كان لسان الحكاية والإخبار عن الواقع فمثبتات الأمارة حجة للملازمة العرفية بين الإخبار عن شيء والإخبار عن لوازمه وهذه الملازمة العرفية تشكل الدلالة الالتزامية وأما الأمارات التي لا يكون لسانها لسان الإخبار عن الواقع والحكاية عنه فلا تكون مثبتاتها حجة كالظن بالقبلة فإنه حجة ولكن لا تكون مثبتاته حجة وكذلك الظن في عدد الركعات.

وأما تقديم الأمارات على الأصول العملية فهي من جهة أخرى وهي أن التقديم من باب التخصيص أي أن الأمارات مخصصة لأدلة الأصول العملية باعتبار أن نسبتها إلى أدلة الأصول العملية نسبة الخاص إلى العام ونسبة المقيد إلى المطلق أو تقديمها عليها بملاك الحكومة وأن الأمارات حاكمة على أدلة الأصول العملية الشرعية أو أن تقديمها عليها من باب الورود أي أنها رافعة لموضوع الأصول العملية وجدانا فهي واردة عليها فهذا يختلف باختلاف النظريات والآراء.

فعلى المسلك المنسوب إلى الشيخ الأنصاري(قده) من ان المجعول في باب الأمارات الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي في صورة المطابقة والمخالف له في صورة عدم المطابقة ومسلك المحقق الخراساني من أن المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية يكون تقديم الأمارات على الأصول العملية الشرعية من باب التخصيص لا من باب الحكومة ولا الورود لأن المجعول في باب الأصول العملية هو حكم ظاهري او هو المنجزية والمعذرية.

وأما على ضوء مدرسة المحقق النائيني(قده) من أن المجعول في باب الأمارات الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فيكون تقديمها على أدلة الأصول العملية من باب الحكومة لأن المأخوذ في موضوع الأصول العملية عدم العلم بالواقع والجهل به والمفروض أن الأمارات علم بحكم الشرع غاية الأمر لم يكن علما وجدانيا بل هو علم تعبدا وعليه يكون رافعا لموضوع الأصول العملية وهو عدم العلم وهذا هو معنى الحكومة.

واما بناءً على ما هو الصحيح من ان موضوع الأصول العملية الشرعية هو التحيّر ولكن منشأ هذا التحيّر عدم العلم بالواقع وعدم قيام الحجة عليه والجهل به والشك فيه فالمكلف متحيّر ولا يعلم بوظيفته لا كما ولا كيفا وعليه تكون الأمارات الشرعية واردة على الأصول العملية الشرعية لأن الأمارات الشرعية بعد حجيتها رافعة للتحيّر وجدانا لأن المكلف بعد قيام الأمارة يعلم بوظيفته كما وكيفا فلا يكون متحيّرا. وتفصيل ذلك يأتي في باب التعادل والترجيح ويمكن أن يأتي في ضمن البحوث القادمة أيضا.

إلى هنا قد تبين أن الفرق بين الأمارات الشرعية والأصول العملية الشرعية في مقام الثبوت والمرتبة السابقة لا في مقام الإثبات وما ذكره الأصحاب من الفروق هي فروق في مقام الإثبات ولا يمكن المساعدة على شيء منها.

وبعد ذلك يقع الكلام في تقسيم الأصول العملية الشرعية.

فقد قسّم الأصوليون الأصول العملية الشرعية إلى قسمين ونوعين:

النوع الأول: الأصول غير المحرزة.

النوع الثاني: الأصول العملية المحرزة.

والنوع الأول: فهو من قبيل أصالة البراءة الشرعية وأصالة الطهارة الشرعية وأصالة الاحتياط الشرعية وغيرها.

والنوع الثاني: فهي من قبيل الاستصحاب في الشبهات الحكمية واما في الشبهات الموضوعية فالأصول المحرزة كثيرة كقاعدة الفراغ والتجاوز والحيلولة وما شاكل ذلك فإنها من الأصول المحرزة على المشهور بين الأصحاب.

ثم إن الفرق بين الأصول المحرزة وبين الأصول غير المحرزة يوجد له تفسيران:

التفسير الأول: ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني[1] (قده) فقد ذكرت أن للقطع اربع حيثيات:

الحيثية الأولى: حيثية الاستقرار والثبات الجزمي المترتب على اليقين، لأن الإنسان إذا تيقن بشيء استقرت نفسه.

الحيثية الثانية: الطريقية والكاشفية فهي من لوازم القطع، بل هي عين القطع لأنه عبارة عن الكاشفية اليقينية للواقع.

الحيثية الثالثة: التنجيز والتعذير.

الحيثية الرابعة: البناء عليه والجري العملي على طبقه.

فهذه الحيثيات الأربعة مترتبة على القطع واليقين الوجداني.

أما الحيثية الأولى: فهي مختصة بالقطع ولا يمكن ترتب هذه الحيثية على اليقين التعبدي لأن استقرار النفس وثباتها امر تكويني فلا يعقل ترتبه على أمر تعبدي لاستحالة تأثير الأمر التعبدي في الأمر التكويني فلا يمكن ان يكون اليقين التعبدي مؤثرا في الثبات والاستقرار النفسي.

واما الحيثية الثانية: فهي مجعولة في الأمارات لأن المجعول في الأمارات هي الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي غاية الأمر أن هذه الحيثية تكوينية في القطع الوجداني لاستحالة جعل الطريقية له وتعبدية في الأمارات الشرعية.

واما الحيثية الثالثة: فهي مجعولة للأصول العملية غير المحرزة لأن أصالة البراءة الشرعية معذرة بجعل الشارع وأصالة الاحتياط الشرعية منجزة بجعل الشارع.

واما الحيثية الرابعة: وهي الجري العملي على طبق القطع فهي مجعولة في الاصول العملية المحرزة كالاستصحاب لأن الشارع حكم بالجري العملي على طبق الحالة السابقة لا بالطريقية والكاشفية ونحوهما.

 


[1] فوائد الأصول، تقرير بحث المحقق النائيني للشيخ الكاظمي، ج4، ص482.