آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: اصالة البراءة

إلى هنا قد تبين أن حجية مثبتات الأمارات تبتني على توفر ثلاثة عناصر فيها:

العنصر الأول: ان يكون لسانها لسان الحكاية عن الواقع والإخبار عنه كما هو الحال في أخبار الثقات وظواهر الالفاظ وما شاكلهما.

العنصر الثاني: أن تكون الملازمة العرفية بين الإخبار عن شيء والإخبار عن ملازمه وبين الحكاية عن شيء والحكاية عن لوازمه ثابتة.

العنصر الثالث: أن يكون مصب الحجية وموضوعها الأمارة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص والا احتمل دخل خصوصية المورد في الحجية.

فإذا توفرت هذه العناصر الثلاث كانت مثبتات الأمارات حجة ومع عدم توفر ولو بعضها فلا تكون مثبتات الأمارات حجة.

أما العنصر الأول: فهو متوفر في اخبار الثقة وظواهر الالفاظ فإن من أخبر عن شيء أخبر عن لوازمه أيضا ومن حكى عن شيء حكى عن لوازمه أيضا.

وأما العنصر الثاني: فلا شبهة في ان الملازمة بين الإخبار عن شيء والإخبار عن لوازمه ثابتة ومرتكزة في أذهان العرف والعقلاء بحيث لو أخبر ثقة عن شيء ينتقل الذهن إلى لوازمه بدون ادنى منبه وهذا معنى ان الملازمة بينهما بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص الذي يشكل الدلالة الالتزامية في مقام الإثبات. وعلى هذا يوجد لدينا إخباران طوليان: أحدهما إخبار عن المدلول المطابقي وهو الملزوم او الملازم. والآخر إخبار عن لوازمه، ولكن الخبر الثاني في طول الخبر الأول ودلالة الأمارة على حجية الخبر الأول دلالة مطابقية أصلية ودلالتها على حجية الخبر الثاني دلالة فرعية فإن الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء فحدوثها بحدوث الدلالة المطابقية وبقائها ببقاء الدلالة المطابقية فلو سقطت الدلالة المطابقية بسبب المعارض مثلا فتتبعها الدلالة الالتزامية في السقوط أيضا.

والحاصل: ان الإخبار عن شيء أخبار عن لوازمه فهنا خبران طوليان فدلالة الدليل على الأول بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.

واما العنصر الثالث: فلأن دليل الحجية إذا كان مصبه الأمارة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص فالدليل يدل على حجية خبر الثقة بما هو خبر الثقة بقطع النظر عن خصوصية مورد خبر الثقة فلا يحتمل دخل خصوصية المورد في حجيته. وهذا بخلاف الظن مثلا فإنه وإن كان من الأمارات إلا أن لسانه ليس لسان الحكاية والإخبار عن الواقع، فإذا كان حجة في مورد ما مثلا كاشتباه القبلة وعدد الركعات إلا أنه لا يكون مثبتا للوازمه؛ لعدم توفر عنصرين من العناصر الثلاثة المتقدمة:

العنصر الأول: ان لسانه ليس لسان الإخبار والحكاية عن الواقع.

العنصر الثاني: احتمال دخل خصوصية المورد في حجية الظن أي أن الظن بالقبلة وبعدد الركعات حجة لا مطلقا فاحتمال خصوصية المورد ودخلها في حجية الظن موجود فلا تكون مثبتاته حجة.

وأما إذا قام خبر ثقة على ثبوت الهلال وفرضنا أنه حجة في هذا المورد فبما ان لسانه لسان الحكاية والإخبار عن ثبوت الهلال في الواقع فقد يظن أن مثبتاته حجة إلا انه لا يمكن الجزم بذلك لأنه لا يمكن التعدي عن مورده إلى سائر الموارد لاحتمال خصوصية المورد في ثبوت الحجية لخبر الثقة عند رؤية الهلال فإذا فرض أنه لا دليل على حجية أخبار الثقة مطلقا وإنما الدليل يدل على حجيته في خصوص مورد ثبوت الهلال فعندئذ احتمال ان للمورد خصوصية وهي دخيلة في حجيته وارد جدا ومعه لا يمكن التعدي إلى سائر الموارد وأن خبر الثقة حجة مطلقا.

فالنتيجة: ان حجية مثبتات الأمارات منوطة بتوفر هذه العناصر الثلاثة فمع توفرها في أمارة فهي كما تكون حجة في إثبات مدلولها المطابقي كذلك هي حجة في إثبات مدلولها الالتزامي.

ثم إن الفرق المزبور بين الأمارات وبين الأصول العملية ذاتي لا اعتباري لأن الأمارات طريق إلى الواقع بطريقية ناقصة وهذه الطريقية الناقصة ذاتية للأمارات وتكوينية وغير قابلة للجعل بل لا يمكن تعلق الجعل التشريعي بها إذ لا يمكن تكوين الشيء بالجعل التشريعي الاعتباري واما الأصول العملية فلا تكون بنفسها طريقا ناقصا إلى الواقع.

وهذا الفراق بينهما هو السبب في جعل الحجية للأمارات بملاك أنها طريق الى الواقع سواء كانت الحجية بمعنى الطريقية والكاشفية كما هو مبنى مدرسة المحقق النائيني أو كانت بمعنى ان المجعول فيها هو الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي في صورة المطابقة والمخالف له في صورة عدم المطابقة وقد نسب هذا القول إلى شيخنا الأنصاريأ وربما ينسب إليه أن معنى حجية الأمارات تنزيلها منزلة القطع فمن أجل ذلك تقوم مقام القطع الطريقي ومقام القطع الموضوعي باعتبار انها بمنزلة القطع في إثبات الأحكام الواقعية وإثبات الأحكام المترتبة على نفس القطع كما هو الحال في القطع الموضوعي أو كانت الحجية المجعولة في الامارات بمعنى ان المجعول فيها هو المنجزية والمعذرية كما هو مختار صاحب الكفاية(قده) أو انه لا مجعول في باب الأمارات لا الطريقية والكاشفية ولا الحكم الظاهري ولا المنجزية والمعذرية فإن الحاكم في المنجزية والمعذرية إنما هو العقل فلا تكون قابلة للجعل باعتبار أن المنجزية أثر لتنجيز العلم التفصيلي والعلم الإجمالي والأثر لا يمكن انفكاكه عن المؤثر وإلا لزم انفكاك المعلول عن العلة فكيف تكون المنجزية مجعولة والجعل اعتبار وأمره بيد الجاعل نفيا وإثباتا. وأيضا لا يمكن أن يكون المجعول الحكم الظاهري إذ لا دليل على ذلك فلم يرد في شيء من الأدلة جعل الحكم الظاهري أو تنزيل الأمارة منزلة القطع فإن عمدة الدليل على حجية الأمارات كأخبار الثقة سيرة العقلاء ولا جعل فيها لأنها عبارة عن عمل العقلاء بأخبار الثقة وبظواهر الالفاظ. نعم إذا جرت سيرة العقلاء على العمل بأخبار الثقة وأمضاها الشارع بسكوته وعدم الردع عنها فالعقل يحكم بتنجيزها للواقع عند الإصابة وتعذيرها عند الخطأ ولكن الحاكم بالمنجزية والمعذرية حينئذ هو العقل فلا تكون المنجزية والمعذرية مجعولة بحكم الشارع ولا الحكم الظاهري ولا الطريقية والكاشفية بل العقل حاكم بعد امضاء الشارع لهذه السيرة.