آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: اصالة البراءة

الرأي الثالث: ما اختاره بعض المحققين[1] (قده) من ان منشأ جعل الحكم الظاهري في موارد الأمارات وموارد الأصول العملية هو علاج التزاحم الحفظي على أساس المرجح الكمي أو الكيفي في مقابل التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي.

وبيان ذلك: أن التزاحم على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: التزاحم الملاكي وهو التزاحم بين ملاكين: ملاك الوجوب وملاك الإباحة او ملاك الوجوب وملاك الحرمة في فعل واحد في الخارج وحيث لا يمكن الجمع بينهما في فعل واحد فلا يعقل أن يكون فعل واحد مشتملا على مصلحة ملزمة وعلى مفسدة ملزمة أو مشتملا على مصلحة ملزمة وعلى مصلحة ترخيصية، فلا بد من الرجوع إلى المرجحات وترجيح أحد الملاكين على الملاك الآخر، وهذا الترجيح في موارد هذا التزاحم بيد الشارع لأنه لا طريق للمكلف إلى ملاكات الأحكام ومبادئها لا كما وكيفا حتى يقوم بالترجيح فلو فرض علم المكلف بوجود الملاك ولكن لا يعلم كيفيته ولا كميته فمن أجل ذلك يكون الترجيح بيد الشارع لا بيد المكلف فإذا رأى الشارع أن احد الملاكين أقوى من ملاك الآخر وأهم فبطبيعة الحال يجعل الحكم على طبقه.

النوع الثاني: التزاحم في مقام الامتثال ومنشأ هذا التزاحم هو عدم قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين في مقام الامتثال فإن للمكلف قدرة واحدة فإن صَرَفها في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعكس فلهذا يقع التزاحم بينهما كالتزاحم بين وجوب الصلاة في آخر الوقت وبين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فإن المكلف غير قادر على الجمع بينهما فإنْ صَرَف قدرته على الاتيان بالصلاة عجز عن إزالة النجاسة عن المسجد وإن عكس فبالعكس ولهذا تقع المزاحمة بينهما فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة فإن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الاهمية فلا بد من تقديمه على الآخر على تفصيل تقدم ويأتي في البحوث الاتية ولا سيما في مبحث التعادل والترجيح.

النوع الثالث: التزاحم الحفظي وهذا التزاحم ناشئ من جعل الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات والأصول العملية في موارد الاشتباه والالتباس لأن منشأ هذا التزاحم اقتضاء الوجوب الحفاظ على الواجب حتى في موارد الاشتباه والالتباس واقتضاء الإباحة الحفاظ على المباح حتى في موارد الاشتباه والالتباس ولا يمكن الجمع بين حفظ كليهما معا في موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشك والتردد فحفظ كليهما لا يمكن ولا يكون في هذا النوع تزاحم بين الملاكين فإن ملاك الوجوب قائم بالواجب وملاك الإباحة قائم بالمباح ولا تزاحم بينهما كما لا تزاحم بينهما في مرحلة الامتثال لأن المكلف قادر على امتثال كلا الحكمين، بل التزاحم إنما هو في توسعة دائرة المحركية والباعثية والداعوية للتكاليف الواقعية حتى في موارد الاشتباه والالتباس فإن وجوب الواجب يقتضي تحريك المكلف نحو الاتيان به حتى في موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشك والاختلاط وإباحة المباح تقتضي الحفاظ عل المباح حتى في موارد الاشتباه والشك والتردد فمن أجل ذلك فلا يمكن الجمع بين حفظ كليهما معا فتقع المزاحمة بينهما، باعتبار ان كل فعل مردد بين كونه واجبا او مباحا فلا يمكن الحفاظ على الواجب والمباح معا فمن أجل ذلك تقع المزاحمة في مقام الحفظ في موارد الاشتباه والتردد.

ثم إن علاج مشكلة التزاحم الحفظي إما بقوة الاحتمال والكاشفية والطريقية وإما بأهمية المحتمل وحيث إن الحجية المجعولة في موارد الأمارات كأخبار الثقة وظواهر الالفاظ ونحوهما إنما هي على أساس قوة الاحتمال وقوة الكاشفية عن الواقع وقوة الطريقية فمن أجل ذلك تكون حقيقة الأمارة وروحها قوة الاحتمال والكاشفية عن الواقع، وأما في موارد الأصول العملية الشرعية كالاستصحاب واصالة البراءة والطهارة ونحوها فجعل الحجية لها في موارد الاشتباه والالتباس إنما هو على أساس أهمية المحتمل فلهذا تكون حقيقة الأصول العملية الشرعية وروحها أهمية المحتمل.

وعلى هذا تكون حجية مثبتات الأمارات على القاعدة فإن الأمارة على أساس كاشفيتها تدل على مدلولها المطابقي وبنفس هذه الكاشفية تدل على مدلولها الالتزامي فتكون حجية مثبتات الأمارات على القاعدة لأن الأمارة إذا كانت كاشفة عن مدلولها المطابقي فهي كاشفة بنفس الدرجة عن مدلولها الالتزامي.

وبكلمة: ان الجمع بين الاقتضاءين لا يمكن: اقتضاء الوجوب الحفاظ على الواجب حتى في موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشك والتردد واقتضاء الإباحة الحفاظ على المباح حتى في هذه الموارد واما رفع هذه المشكلة برفع الجهل والشك والتردد إما أنه لا يمكن او أنه ممكن ولكن الشارع لا يرى مصلحة فيه فمن أجل ذلك قام بعلاج هذه المشكلة بجعل الحكم الظاهري في موارد الأمارات وموارد الأصول العملية وحيث إن جعل الحكم الظاهري في موارد الأمارات والأصول العملية ليس جزافا وبلا نكتة مبررة لذلك فإن صدور الجزاف من المولى الحكيم مستحيل، والنكتة المبررة لذلك متمثلة في أمرين:

الأمر الأول: قوة الاحتمال والكاشفية عن الواقع والطريقية إليه.

الأمر الثاني: أهمية المحتمل.

وهذا الترجيح أيضا بيد الشارع حيث لا طريق للمكلف إلى ملاكات الأحكام وخصوصياتها الكيفية والكمية وبما أن كاشفية الأمارات كأخبار الثقة أقوى من كاشفية أخبار غير الثقة وكاشفية ظواهر الالفاظ أقوى من كاشفية ظواهر الافعال فلأجل ذلك جعل الشارع الحجية لأخبار الثقة وظواهر الالفاظ على أساس قوة الكاشفية والطريقية.

واما في موارد الأصول العملية فإذا رأى الشارع أن أحد الملاكين أهم من ملاك آخر فيجعل الحجية للأصول العملية على طبق أهمية المحتمل.

فإذاً كما ان حقيقة حجية الأمارة وروحها قوة الكاشفية كذلك حقيقة حجية الأصول العملية وروحهما أهمية المحتمل.

فالنتيجة أن حجية مثبتات الأمارات على هذا تكون على القاعدة.

هذا ملخص ما ذكره(قده).


[1] بحوث في علم الاصول، تقرير بحث السيد الشهيد للسيد الشاهروي، ج5، ص12.