آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/03/20

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد – الدليل العقلي

كان كلامنا في الإشكال الثبوتي على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إذا كان المعلوم بالإجمال حكما ترخيصيا وقد قلنا ان المحقق النائيني أبدى هذا الإشكال بتقريب:

أن المكلف إذا علم إجمالا بطهارة أحد إناءين كانا في السابق نجسين فاستصحاب بقاء نجاسة كل منهما تعبد على خلاف اليقين بطهارة أحدهما فإن المكلف يعلم وجدانا بأن احدهما طاهر فكيف يمكن التعبد بنجاسة كليهما معا فإنه تعبد على خلاف العلم الوجداني وهو غير ممكن هكذا ذكره(قده).

والجواب عن ذلك واضح: فإن التعبد على خلاف العلم الوجداني إنما يتصور فيما إذا كان التعبد على خلاف موضوع العلم الاجمالي الوجداني فإذا فرض أن العلم الوجداني تعلق بطهارة أحد الإناءين والتعبد تعلق بنجاسة احد الإناءين فهذا لا يمكن لأنه تعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني ومتعلق التعبد عين متعلق العلم والاختلاف بينهما إنما هو في الحكم فالعلم تعلق بطهارة أحدهما والتعبد الاستصحابي تعلق بنحاسته وهذا غير معقول، وأما إذا كان متعلق العلم الإجمالي غير متعلق التعبد الاستصحابي كما في المقام فإن متعلق التعبد الاستصحابي في المقام هو نجاسة الإناء الشرقي بحده الفردي وكذلك نجاسة الإناء الغربي بحده الفردي ومتعلق العلم بطهارة أحدهما هو الجامع العنواني الانتزاعي فمتعلق التعبد غير متعلق العلم فمتعلق التعبد هو نجاسة كل من الإناءين بحده الفردي ومتعلق العلم الوجداني الإجمالي الجامع وهو عنوان أحدهما الانتزاعي، فكيف يكون هذا الاستصحاب تعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني حيث لا صلة بينهما اصلا.

فما ذكره(قده) خلط بين أن يكون متعلق التعبد الاستصحابي غير متعلق العلم الوجداني وبين ما إذا كان متعلق التعبد الاستصحابي نفس متعلق العلم الإجمالي الوجداني والتناقض إنما يلزم في الثاني دون الأول.

ودعوى أن ما ذكره المحقق النائيني مبني على رجوع هذين الاستصحابين إلى استصحاب واحد حقيقة حكما وموضوعا وهو استصحاب بقاء نجاسة كلا الإناءين معا وهذا الاستصحاب تعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني في جزء الموضوع وفي جزء المتعلق، لأن متعلق التعبد نجاسة كلا الإناءين والمفروض ان العلم تعلق بطهارة احدهما فكيف يمكن التعبد بنجاسة كليهما معا مع العلم الوجداني بطاهرة أحدهما.

ولكن هذه الدعوى لا أساس لها ولا ترجع إلى معنى محصل:

أما أولاً: فلأن تعدد الحكم يتبع تعدد الموضوع فإذا كان الموضوع متعددا فلا محالة يكون الحكم متعددا ولا يعقل أن يكون الموضوع متعددا ويكون الحكم واحدا ولا يعقل أن يكون الحكم متعددا والموضوع واحدا فإن التفكيك بين الحكم والموضوع غير معقول لأنه كالتفكيك بين العلة والمعلول.

فلا شبهة إذاً في أن الموضوع لكلا الاستصحابين متعدد فموضوع الاستصحاب الأول بقاء نجاسة الإناء الشرقي وموضوع الاستصحاب الثاني بقاء ناجسة الإناء الغربي فكيف يمكن رجوع هذان الاستصحابان إلى استصحاب واحد حقيقة، فهذا ليس إلا مجرد تخيل وتوهم.

هذا مضافا إلى أنه لو سلم رجوع كلا الاستصحابين إلى استصحاب واحد حقيقة وهو استصحاب بقاء نجاسة كلا الإناءين معا ولكن مع ذلك لا يكون هذا الاستصحاب تعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني لأن متعلق التعبد نجاسة الإناءين بحدهما الفردي ومتعلق العلم الإجمالي الوجداني الجامع الانتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما ومن الواضح ان العلم لا يسري من الجامع إلى أفراده لأن العلم تعلق بالجامع واما أفراده فهي مشكوكة ومحتملة فإذاً لا يلزم من جريان استصحاب نجاسة كلا الإناءين معا محذور التعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني.

إن قلت: لئن سلم عدم رجوع هذين الاستصحابين إلى استصحاب واحد حقيقة إلا أنه يمكن التسليم برجوعهما إلى استصحاب واحد حكما بتقريب أن استصحاب بقاء نجاسة الإناء الشرقي واستصحاب بقاء نجاسة الإناء الغربي في حكم استصحاب بقاء نجاسة كلا الإناءين وحينئذ يكون التعبد الاستصحابي على خلاف اليقين في جزء الموضوع.

قلت: هذه الدعوى ظهر جوابها مما تقدم وانه لا وجه لذلك فإن مورد التعبد هو بقاء نجاسة كلا الإناءين بحدهما الفردي ومتعلق العلم الإجمالي طهارة الجامع ولا يرجع هذين الاستصحابين إلى استصحاب بقاء نجاسة الجامع حتى يكون هذا التعبد على خلاف العلم الإجمالي الوجداني.

وثانيا: أن الحكم الظاهري لا يكون مخالفا للحكم الواقعي ومتعلق العلم الإجمالي هو الطهارة الواقعية ومورد التعبد الاستصحابي النجاسة الظاهرية وتحقق الحكم الظاهر منوط بتحقق موضوعه في الخارج والمفروض ان موضوع استصحاب بقاء نجاسة كل من الإناءين بحده الفردي متحقق، فإن الإناء الشرقي كان متيقن النجاسة والآن يشك في بقاء هذه النجاسة وهذا أمر وجداني، فاليقين بالنجاسة السابقة والشك في بقائها أمر وجداني، فموضوع الاستصحاب متحقق فلا محالة يجري الاستصحاب، وكذلك بالنسبة إلى الإناء الآخر والعلم الإجمالي بتحقق طهارة أحدهما في الواقع لا يمنع من هذين الاستصحابين فإن الحكم الظاهري قد يكون موافقا للحكم الواقعي وقد يكون مخالفا له وموضوعه احتمال ثبوت الحكم الواقعي والشك فيه ومع تحقق موضوعه يتحقق الحكم الظاهري لأن التفكيك بين الحكم والموضوع غير معقول.

فالنتيجة أن ما ذكره المحقق النائيني لا يرجع إلى معنى محصل.

نعم لا يجوز العمل بالاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لأمرين:

الأول: العلم التفصيلي. فإذا حصل للمكلف العلم التفصيلي بنجاسة الفرد أو طهارته فهو رافع لموضوع الاستصحاب، بل لا موضوع لغير الاستصحاب من الأصول العملية.

والثاني: لزوم المخالفة القطعية العملية فإذا استلزم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي المخالفة القطعية العملية فإنه لا يجوز العمل به.

وكلا الأمرين في المقام غير متحقق لفرض أن الموجود في المقام هو العلم الإجمالي لا التفصيلي وأن المعلوم بالإجمال حكم ترخيصي لا إلزامي فلا يلزم من جريان الاستصحاب في أطرافه المخالفة القطعية العملية.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ان الحكم الظاهري على نوعين:

1: الحكم الظاهري الترخيصي كأصالة البراءة وأصالة الطهارة واستصحاب عدم التكليف الالزامي، والغرض من جعل هذه الأحكام الترخيصية الظاهرية المصالح العامة بالنسبة إلى نوع المكلفين وهي المصلحة التسهيلية العامة بالنسبة إلى نوع المكلفين، ومن الواضح ان المصلحة النوعية تتقدم على المصالح والمفاسد الشخصية فإن الحكم الظاهري الترخيصي قد يؤدي إلى تفويت المصلحة الواقعية وقد يوجب وقوع المكلف في المفسدة ولكن تلك المصلحة وهذه المفسدة شخصيتان لا تزاحمان المصلحة النوعية.

فالغرض إذاً من وراء جعل هذه الأحكام الترخيصية المصالح العامة النوعية بالنسبة إلى نوع المكلف وهي المصلحة التسهيلية.

2: الحكم الظاهري اللزومي وهو في طول الحكم الواقعي والغرض من جعله هو الحفاظ على الأحكام الواقعية بما لها من الملاكات والمبادئ والحكم الظاهري الالزامي حكم طريقي، ولا شان له إلا الحفاظ على الأحكام الواقعية بما لها من الملاكات والمبادئ. فجعل وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص الغرض منه هو الحفاظ على الأحكام الواقعية اللزومية بما لها من المبادئ والملاكات، فإن اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية بما لها من الملاكات والمبادئ حتى في موارد الاشتباه والاختلاط هو الداعي والسبب لجعل الأحكام الظاهرية اللزومية ولهذا لا شأن لهذه الأحكام الظاهرية إلا الحفاظ على الأحكام الواقعية بل ليس هي أحكاما شرعية إذ لا عقوبة على مخالفتها ولا مثوبة على موافقتها ولا مصلحة فيها لأن شأنها الحفاظ على الأحكام الواقعية فالمصلحة التي تدعو إليها هي مصلحة الأحكام الواقعية.

وعليه فالعلم بطهارة أحد الإناءين لا يمنع من جعل نجاسة كلا الإناءين ظاهرا لأن جعل النجاسة طريق للحفاظ على النجاسة الواقعية في صورة الشك والاحتمال كما أن استصحاب بقاء الوجوب أو الحرمة إنما هو لغرض الحفاظ على الأحكام الواقعية ولا يمنع من هذا الاستصحاب إباحة الشيء في الواقع.