آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/03/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد – الأدلة العقلية

كان كلامنا في أدلة حجية أخبار الآحاد وتقدم جملة كبيرة من هذه الأدلة من الآيات والروايات والإجماع وسيرة العقلاء. وذكرنا أن عمدة الدليل على حجية أخبار الثقة هي سيرة العقلاء الجارية على العمل بها والممضاة شرعا وأما الآيات و الروايات فعلى تقدير تسليم دلالتها على حجية أخبار الثقة فإن مفادها ليس تأسيسا بل التأكيد والتقرير لما بنى عليه العقلاء، وأما الإجماع فهو غير تام، ووصل بنا الكلام إلى الأدلة العقلية التي أستدل بها على حجية أخبار الثقة وهي على أصناف:

الصنف الأول: هو العلم الإجمالي بمطابقة جملة كبيرة من الأمارات للواقع من الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية والروايات الصادرة من الأئمة الأطهار(ع) ولا شبهة في هذا العلم الإجمالي وإنما الكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في عدة مراحل:

المرحلة الأولى: في تنجيز هذا العلم الإجمالي فهل هذا العلم الإجمالي منجز أم أنه لا يكون منجزا؟

المرحلة الثانية: في نسبة الروايات والأمارات التي نعلم بمطابقتها للواقع إلى الأصول العملية الشرعية والعقلية فهل هذه الأمارات تمنع عن جريان الأصول العملية الشرعية والعقلية في أطرافه أو لا تمنع؟

المرحلة الثالثة: في نسبة هذه الأمارات التي نعلم بمطابقة جملة منها للواقع إلى الأصول اللفظية كالعمومات والإطلاقات فهل هذه الأمارات تمنع عن التمسك بالأصول اللفظية أو لا تمنع؟

فيقع الكلام في هذه المراحل.

المقام الثاني: في تحديد دائرة حجية هذه الأمارات ـــ التي نعلم بمطابقتها للواقع ـــ سعة وضيقا وشروطها وحدودها.

أما الكلام في المرحلة الأولى: فقد أعترض شيخنا الأنصاري(قده)[1] على تنجيز هذا العلم الإجمالي وأن هذا العلم الإجمالي لا يصلح أن يكون منجزا وقد أفاد في وجه ذلك أن هذا العلم الإجمالي لو كان منجزا فلازمه حجية جميع الأمارات الظنية بكافة أقسامها وأصنافها ومنها القياسات والاستحسانات وهذا مما لا يمكن الالتزام به فإن عدم حجية مثل هذه الأمارات أمر ضروري في الشريعة المقدسة.

هكذا ذكره شيخنا الأنصاري(قده).

ولكن ذكر السيد الاستاذ(قده)[2] أن هناك علوما إجمالية ثلاثة:

العلم الإجمالي الكبير: وهو العلم الإجمالي بثبوت الإحكام الشرعية من الوجوبات والتحريمات وغيرهما في الشريعة المقدسة، ودائرة هذا العلم الإجمالي مطلق الشبهات سواء أ كانت هي أمارات أم لم تكن إمارات ومنشأ هذا العلم الإجمالي هو وجود الشريعة المقدسة إذ لا يمكن خلو الشريعة عن الأحكام الشرعية بل هي عبارة عن جعل جملة من الأحكام الشرعية التي تحل مشاكل الناس الاجتماعية والفردية والعائلية والاهمال في الشريعة المقدسة معناه الاهمال في هذه الأحكام الشرعية.

والعلم الإجمالي الثاني: وهو العلم الإجمالي المتوسط _ أقل دائرة من العلم الإجمالي الأول _ وهو العلم الإجمالي بمطابقة جملة كبيرة من الأمارات ـــ كالروايات والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية وغيرها ـــ للواقع ودائرة هذا العلم الإجمالي الأمارات فقط لا مطلق الشبهات أي الشبهات التي لا توجد فيها أمارة فهي خارجة عن دائرة هذا العلم الإجمالي والمراد من الأمارات ما كان أعم من الروايات والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية ومنشؤها عدم احتمال كذب جميع هذه الأمارات بحسب حساب الاحتمالات وكذلك بحسب حساب استحالة الصدفة فلا يمكن أن تكون جميع هذه الأمارات غير مطابقة للواقع.

العلم الإجمالي الثالث: وهو العلم الإجمالي الصغير وأطراف هذا العلم منحصرة بالروايات التي وصلت من الأئمة الأطهار(ع) الموجودة في الكتب المعتبرة فإنا نعلم بصدور جملة كبيرة من هذه الروايات من الأئمة الأطهار(ع) واحتمال الكذب في الجميع مدفوع على حساب الاحتمالات من جهة وحساب استحالة الصدفة من جهة أخرى فإن الصدفة لا تدوم. فهذا العلم تنحصر أطرافه بالروايات الموجودة في الكتب المعتبرة.

وعندئذ ننظر هل ينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي المتوسط أو لا ينحل؟

والظاهر أن العلم الإجمالي الكبير ينحل بالعلم الإجمالي المتوسط فإن وجود الشريعة لا يقتضي جعل الأحكام أكثر مما هو موجود في مظان هذه الأمارات لأن العلم بوجود الشريعة يقتضي جعل الأحكام الشرعية بمقدار ما تحل به مشاكل الإنسان الكبرى من المشاكل الاجتماعية والمالية والفردية والعائلية وما شاكل ذلك ولا يقتضي أكثر من ذلك لأنه لغو ومن الواضح أن الأحكام الشرعية الموجودة في ضمن هذه الأمارات ــ أعم من الروايات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية ــ تكفي لحل مشاكل الإنسان الكبرى وعندئذ فلا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي المتوسط أقل من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير، وإذا لم يكن أقل منه فهو ينطبق عليه ومع انطباقه عليه ينحل العلم الإجمالي الكبير، فإذا أفردنا الشبهات التي لا توجد فيها أمارة وبقيت الشبهات التي فيها أمارة من الروايات أو الاجماعات المنقولة أو الشهرات الفتوائية فلا علم بثبوت الأحكام الشرعية بالشبهات التي لا توجد فيها أمارة لأن في تلك الشبهات لا يوجد علم إجمالي فاحتمال ثبوت الحكم موجود والعلم الإجمالي بثبوت الحكم في تلك الشبهات التي لا توجد فيها أمارة غير موجود وهذا دليل على الانحلال وأن العلم الإجمالي إنما هو علم في الأمارات فقط أعم من الروايات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية.

واما العلم الإجمالي المتوسط فهل ينحل بالعلم الإجمالي الصغير أو لا ينحل؟

والظاهر هو الانحلال فإن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة لا تكون أكثر من الأحكام الموجودة في مضامين الروايات في الكتب الأربعة فإن العمل بتلك الروايات يكفي لحل مشاكل الإنسان الكبرى، فلا نعلم أن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقل من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي المتوسط، فاحتمال الانطباق موجود ومع هذا الاحتمال لا علم بثبوت الأحكام الشرعية في خارج دائرة الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة.

والوجه في ذلك: أن الأمارات الموجودة في خارج الروايات الموجودة في الكتب الأربعة تنقسم إلى فئتين: أحداهما مطابقة لهذه الروايات في المضامين أي أن مضامين هذه الأمارات مضامين تلك الروايات وإن لم تكن موجودة في الكتب المعتبرة بل كانت موجودة في الكتب غير المعتبرة أو الاجماعات المنقولة فإن مضامينها مطابقة لمضامين الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة وكذلك الشهرات الفتوائية.

فإذن لا أثر لمخالفة هذه الفئة من هذه الأمارات أعم من الروايات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية.

وأما الأمارات التي تكون مخالفة لها فليست كثيرة بحيث يعلم إجمالا بمطابقتها للواقع ولهذا ينحل هذا العلم الإجمالي المتوسط بالعلم الإجمالي الصغير.

فإذن المنجِز هو العلم الإجمالي الصغير وهو العلم الإجمالي بصدور جملة كبيرة من الروايات الموجودة في الكتاب المعتبرة فإن هذه الروايات تكفي لحل مشاكل الإنسان الكبرى من المشاكل الاجتماعية والمالية والعائلية والفردية وهكذا.

فما ذكره شيخنا الأنصاري(قده) من أنه لا يمكن ان يكون هذا العلم الإجمالي منجِزا مبني على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي المتوسط والعلم الإجمالي المتوسط بالعلم الإجمالي الصغير.

ولكن تبين أن الأمر ليس كذلك فإن الانحلال ثابت ومعه لا إشكال في البين.


[1] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج1، ص357.
[2] مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الواعظ، ج2، ص204.