آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/02/05

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد- العلم الإجمالي

بقي هنا شيء: وهو ان التزاحم بين المقتضي التنجيزي والمقتضي التعليقي يتصور في موارد:

المورد الأول: بين الأشياء الخارجية كما إذا أراد شخصان الدخول في دار ولكن إرادة أحدهما منجزة وإرادة الآخر معلقة على عدم إرادة الأول أو إذا أراد شرب ماء من كأس وهذه الإرادة منجزة وأما إرادة الآخر فهي معلقة على عدم إرادة الأول وهكذ... فالتزاحم بين إرادة الأول وإرادة الثاني غير متصور فإن إرادة الأول بمثابة العلة التامة ومنجزة وإرادة الثاني بمثابة العلة الناقصة فلا يعقل أن تكون العلة الناقصة مانعة عن تأثير العلة التامة وإلا لزم الخلف والتهافت والتناقض ولزم من فرض وجود العلة التامة عدم وجودها وكل ما يلزم من فرض وجود شيء عدمه فوجوده مستحيل، فمن أجل ذلك لا يمكن ان تكون العلة الناقصة أي المقتضي التعليقي مانعا عن تأثير العلة التامة.

المورد الثاني: التزاحم إنما هو في مرحلة الواقع أعم من الخارج ونفس الأمر كما إذا فرضنا أن الحديد يتمدد بالحرارة فإذا فرضنا أن هناك حرارتين في الحديد تأثير أحداهما منجز والأخرى تأثيرها في الحديد معلق على عدم تأثير الأولى ففي مثل لا يمكن أن تكون الحرارة الثانية مزاحمة للحرارة الأولى لأن الحرارة الثانية بمثابة العلة الناقصة واما الحرارة الأولى فهي بمثابة العلى التامة فلا يمكن ان تكون العلة الناقصة مانعة عن تأثير العلة التامة وإلا لزم الخلف والتهافت والتناقض.

المورد الثالث: ـــ الذي هو محل الكلام في المقام ـــ في القضايا التشريعية المجعولة من قبل الشارع فإن تعيين الموضوع وتعيين الحكم وجعله بيد الشارع واما المورد الأول والثاني فكان الكلام في القضايا التكوينية، والشارع جعل ظواهر هذه الآيات موضوعا للحجية وجعل الحجية لها منجزة بدون التوقف على أي مقدمة أخرى، فهذه الحجية فعلية بفعلية موضوعها قهرا من دون التوقف على أي مقدمة أخرى لأن فعلية الحكم بفعلية موضوعه أمر قهري وليست بيد الشارع والذي هو بيد الشارع تعيين الحكم وجعل الحكم لهذا الموضوع واما فعلية الحكم بفعلية الموضوع فهو أمر قهري، فالمكلف إذا استطاع أصبح وجوب الحج عليه فعلي وهذه الفعلية أمر قهري فليست بحاجة إلى الجعل. وفي المقام كذلك. وأما حجية السيرة فهي معلقة على إمضاء الشارع وعدم الردع عنها.

وعلى هذا فإذا فرضنا ان حجية ظواهر الآيات الناهية رادعة عنها فلا تكون السيرة حينئذ حجة لأن حجيتها معلقة على عدم الردع عنها والمفروض أن حجية ظواهر الآيات الناهية رادعة عنها فلا تكون السيرة حجة.

فمن أجل ذلك لا يمكن ان تكون حجية السيرة مانعة عن رادعية حجية ظواهر الآيات الناهية لأن حجية ظواهر الآيات الناهية فعليتها بمثابة العلة التامة وتأثيرها أمر قهري وخارج عن اختيار المولى وعن اختيار المكلف فلا يمكن أن تكون السيرة مانعة عن ذلك فإن حجية السيرة معلقة على عدم كون الآيات رادعة والمفروض أن حجية ظواهر هذه الآيات رادعة فمع حجيتها فلا حجية للسيرة.

هذا هو محل الكلام وهو مقصود المحقق الأصفهاني.

ولكن تقدم أن الأمر ليس كذلك فإن السيرة تتقدم على الآيات الناهية لأن السيرة المرتكزة دليل لبي قطعي والدليل اللبي بمثابة القرنية المتصلة مانعة عن انعقاد ظهور هذه الآيات في العموم والإطلاق فتصبح مجملة في مقابل هذه السيرة فمن أجل ذلك لا بد من تقديم السيرة عليها. هذا مضافا إلى أن السيرة دليل قطعي وظاهر الآيات دليل ظني فلا يمكن ان يكون الدليل الظني مزاحما للدليل القطعي على تفصيل تقدم.

هذا تمام كلامنا في السيرة العقلائية الممضاة شرعا التي تدل على حجية أخبار الثقة وظواهر الالفاظ كظواهر الكتاب والسنة وهذه السيرة هي عمدة الدليل على حجية أخبار الثقة

حجية أخبار الثقة بالأدلة العقلية

وهذه الأدلة العقلية على أنواع:

النوع الأول: العلم الإجمالي بصدور مجموعة كبيرة من الروايات الواردة عن النبي الأكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) فنحن نعلم إجمالا بصدور مجموعة كبيرة من هذه الروايات ولا شبهة في هذا العلم الإجمالي، وإنما الكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: وفيه عدة مراحل:

المرحلة الأولى: في تنجيز هذا العلم الإجمالي فهل هو منجز أو انه ليس بمنجز؟

المرحلة الثانية: في نسبة هذا العلم الإجمالي إلى الأصول العملية كالاستصحاب والبراءة وأصالة الطهارة ونحوها، وهل تجري هذه الأصول العملية في أطراف هذا العلم الإجمالي أو لا تجري في أطرافه؟

المرحلة الثالثة: في نسبة هذا العلم الإجمالي إلى الأصول اللفظية كأصالة الظهور وأصالة العموم وأصالة الإطلاق ونحوها من الأصول اللفظية الاجتهادية، فهل يمكن التمسك بهذه الأصول في أطراف العلم الإجمالي او لا يمكن التمسك بها؟

ثم أن حجية أخبار الثقة بالعلم الإجمالي غير حجية أخبار الثقة بالسيرة أو بالآيات أو بالروايات فإن الحجية الثابتة بالسيرة حجية كل خبر بخصوصه سواء كانت الحجية بمعنى الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي أو بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى التنزيل، والعلم الإجمالي لا يدل على الحجية بهذا المعنى أي بمنعى الطريقية والكاشفية ولا بمعنى جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي في صورة المطابقة ولا التنزيل أي تنزيل أخبار الثقة منزلة العلم لأن العلم الإجمالي لا يدل على شيء من ذلك فالعلم الإجمالي شأنه التنجيز وهو ينجز المعلوم بالإجمال، واما كل طرف من أطراف المعلوم بالإجمال وكل فرد من أفراده فالمنجز ليس هو العلم الإجمالي فإن العلم الإجمالي إنما تعلق بالجامع ولم يتعلق بكل طرف من أطراف المعلوم بالإجمال فتنجيز الحكم في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي إنما هو بسبب الاحتمال أي احتمال التكليف في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي فهذا الاحتمال منجز طالما لم يكن هنا أصل مؤمن والمفروض أن الأصول المؤمنة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي إما بنفسها أو لأنها تسقط من جهة المعارضة فاحتمال التكليف منجز طالما لم يجر الأصل المؤمن فيه.

هذا هو معنى حجية أخبار الثقة أو مطلق الأخبار بالعلم الإجمالي.

المقام الثاني: في تحديد دائرة هذه الحجية سعة وضيقا وشروطها. وسوف يأتي الكلام فيه.

أما الكلام في المرحلة الأولى وهي تنجيز هذا العلم الإجمالي فقد ذهب شيخنا الأنصاري(قده)[1] إلى أن هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا إذ لو كان منجزا لزم العمل بكل إمارة ظنية كالشهرات الفتوائية والإجماعات المنقولة وغيرهما مع أن الأمر ليس كذلك.

لكن هذا من الشيخ(قده) مجرد استبعاد ولم يقم دليل على ذلك ولا هو أقام دليل على ذلك.

وذهب السيد الاستاذ(قده)[2] وكذلك غيره من المحققين إلى أن هذا العلم الإجمالي منجز ولكن هذا العلم الإجمالي ذات مراتب طولية ذلك لأن هنا ثلاث علوم إجمالية:

العلم الإجمالي الأول: بوجوب شيء أو حرمة شيء في الشريعة المقدسة، ومنشأ هذا العلم الإجمالي هو وجود الشريعة فإن الشريعة لا يمكن أن تكون بدون حكم فإن مجيء شريعة الإسلام متضمنة للأحكام الشرعية التكليفية، فاحتمال وجوب كل شيء أو احتمال حرمة كل شيء موجود فدائرة هذا العلم الإجمالي دائرة الشريعة ومنشأ هذا العلم الإجمالي هو وجود الشريعة.

العلم الإجمالي الثاني: وهو العلم الإجمالي بصدور الروايات من النبي الأكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) حيث نعلم إجمالا بأن مجموعة كبيرة من هذه الروايات قد صدرت عنهم(ع) ودائرة هذا العلم الإجمالي الروايات ومطلق الأمارات من الروايات وسائر الأمارات كالشهرات الفتوائية والاجماعات المنقولة.

العلم الإجمالي الثالث: وهو العلم الإجمالي بصدور مجموعة كبيرة من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة ونحوها. ودائرة هذا العلم الإجمالي خصوص الكتب المعتبرة والمعلوم بالإجمال هو صدور مجموعة كبيرة من الروايات الموجودة في هذه الكتب.

والعلم الإجمالي الأول ينحل بالعلم الإجمالي الثاني والعلم الإجمالي الثاني ينحل بالعلم الإجمالي الثالث. والميزان في انحلال العلم الإجمالي الأول بالعلم الإجمالي الثاني هو أن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني لا يقل عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول، فإذا لم يكن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني أقل من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول فينطبق المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول على المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني فلا علم بالتكليف في خارج دائرة الروايات والأمارات فإذا أفرز هذه الروايات فلا علم إجمالي بوجوب شيء أو حرمة شيء خارج عن دائرة الروايات والآيات والأمارات.

والمعلوم بالعلم الإجمالي الثالث لا يكون من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني فإذا لم يكن أقل منه فهو ينطبق عليه وينحل العلم الإجمالي الثاني إلى علم تفصيلي وهو العلم الإجمالي الثالث وإلى شك بدوي في خارج أطراف العلم الإجمالي الثاني. فإذن ينحصر العلم الإجمالي المنجز بالعلم الإجمالي الثالث وهو المنجز، والمنجَّز إ نما هو الأحكام الموجودة في ضمن الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة وأما خارج الكتب المعتبرة فلا علم إجمالي بوجود الحكم الإلزامي فيها على تفصيل سيبين في وقته.

هكذا ذكره السيد الاستاذ(قده) وجماعة من المحققين.


[1] فرائد الاصول، الشيخ الانصاري، ج1، ص358.
[2] مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ، ج2، ص203.