آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/01/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد – السيرة العقلائية

إلى هنا قد تبين أن ما ذكره السيد الاستاذ(قده) من ان مفاد هذه الآيات إرشاد إلى ما استقل به العقل وهو تحصيل المؤمن من الإدانة والعقوبة في مقام الامتثال والإطاعة فإن العقل مستقل في ذلك وانه يجب على المكلف تحصيل المؤمن من الإدانة والعقاب في مقام الامتثال والإطاعة والآيات الكريمة مفادها إرشاد إلى ذلك.

وعلى هذا فلا شبهة في أن سيرة العقلاء بعد حجيتها وإمضاء الشارع لها مؤمنة، فأخبار الثقة بعد حجيتها خارجة عن عموم الآيات بالورود خروجا موضوعيا لا بالحكومة.

وللنظر فيما أفاده(قده) مجال فإن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم وبالظن تصنف إلى أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: ما يكون مدلوله مختص بأصول العقائد ولا يعم الأحكام الفرعية العملية.

الصنف الثاني: ما يكون مدلوله شاملا للأحكام الفرعية العملية أيضا.

الصنف الثالث: أيضا يعم الأحكام العملية الفرعية.

أما الصنف الأول: فهو قوله تعالى: [وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا][1] فإن هنا قرينتين على أن هذه الآية لا تشمل الأحكام الفرعية العملية:

القرينة الأولى: هو النهي عن العمل بالظن مطلقا فمقتضى إطلاق قوله تعالى: [إن الظن لا يغني من الحق] أن الظن لا أثر له أصلا مع أنه لا شبهة في جملة من الموارد أن الظن بما هو ظن حجة في الأحكام الفرعية العملية، منها ركعات الصلاة فإن الظن حجة فيها وكذلك في موارد الشكوك في الركعات فلا شبهة في حجية الظن بما هو ظن في بعض الفروع الفقهية وكذا في غيرها من الموارد.

فإطلاق هذه الآية المباركة قرينة على اختصاصها بأصول العقائد.

القرينة الثانية: كلمة الحق في الآية المباركة فإنها ظاهرة في الواقع وليس المراد منها العلم وإن فسرت بذلك في بعض الموارد فإن المطلوب في أصول العقائد هو الوصول إلى الواقع بينما في الأحكام الشرعية العملية المطلوب هو تحصيل الأمن من الإدانة والعقوبة سواء كان العمل مطابق للواقع أم لم يكن إذ ليس هم المكلف تحصيل الواقع والوصول إليه بل همه تحصيل المؤمن في مرحلة الامتثال والإطاعة، وهو المطلوب في الأحكام الفرعية العملية كان العمل مطابقا للواقع ام لم يكن فإذا كان خبر الثقة حجة فالعمل به مؤمنا من الإدانة والعقوبة كان مطابقا للواقع أم لم يكن ومن هنا لا شبهة في كون الانقياد من أظهر مصاديق الطاعة فإن الانقياد قد يكون مطابقا للواقع وقد لا يكون كذلك كما أن التجري والتمرد من أظهر أفراد العصيان والتعدي على المولى مع أنه غير مطابق للواقع.

فإذن المطلوب في الأحكام الفرعية العملية ليس هو الوصول إلى الواقع بل هو تحصيل الأمن من العقوبة والإدانة في مرحلة الامتثال والإطاعة. بينما المطلوب في أصول العقائد ليس تحصيل الأمن من العقوبة بل هو الوصول إلى الواقع فإن الغرض من إثبات التوحيد وإثبات الرسالة وإثبات الإمامة وما شاكل ذلك هو الوصول إلى الواقع.

فإذن كلمة الحق قرينة على اختصاص الآية المباركة بالعقائد فلا تشمل الأحكام الفرعية العملية التي ليس المطلوب فيها الوصول الى الواقع.

فهذان الأمران قرينتان على اختصاص الآية بأصول العقائد فلا تشمل الأحكام الفرعية العملية. ومما يؤيد ذلك وقوع هذ الآية في سياق الآيات التي وردت في شجب عمل الكفار والمشركين بظنونهم وتخميناتهم في أصول العقائد.

ومع الإغماض عن ذلك وتسليم أن الآية غير ظاهرة في أصول العقائد فالمحتمل في الآية أمران:

الأمر الأول: ان يكون مفادها إرشاد إلى ما استقل به العقل وهو تحصيل المؤمن من العقوبة.

الثاني: أن يكون مفادها الإرشاد إلى عدم حجية الظن.

فالأمر يدور بين هذين الاحتمالين ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون المراد من الآية الاحتمال الثاني وذلك لأن كل كلام صادر من المولى ظاهر في إعمال المولوية فحمله على الإرشاد بحاجة إلى قرينة لأن معنى الإرشاد هو الأخبار وليس متكفلا لأي حكم شرعي، وهذا قرينة على أن المراد من الآية الاحتمال الثاني، فإن فيه شائبة المولوية، فيكون مفادها حكم مولوي وهو عدم حجية الظن، وأما الاحتمال الأول فهو أخبار فقط عن حكم العقل ولا يكون فيه شائبة إعمال المولوية بل هو أخبار عن حكم العقل بتحصيل المؤمن في مقام الامتثال والطاعة.

وأما الصنف الثاني من الآيات الكريمة: فهو قوله تعالى: [قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ][2] فإن هذه الآية تدل على حرمة الافتراء على الله تعالى ولا شبهة في أن العمل بالخبر بدون أن يكون حجة افتراء على الله تعالى باعتبار أن المراد من العمل بالخبر هو أسناد مؤداه إلى الشارع ومع عدم ثبوته فهو افتراء على الله تعالى، وحينئذ يكون حرام وغير جائز. واما إذا كان الخبر حجة كأخبار الثقة فإنها تكون حجة فإذا كانت حجة فالعمل بأخبار الثقة ليس افتراء على الله تعالى وحينئذ يجوز إسناد مؤداها إلى الشارع سواء كان مؤداها الوجوب أو الحرمة ام غيره من الأحكام التكليفية او الوضعية فيجوز إسناد مؤداها إلى الشارع كما يجوز الاستناد إليه في مقام الامتثال فلا يكون افتراء.

وعلى هذا فهذه الآية الكريمة وما شاكلها مفادها الحكم التكليفي المولوي التشريعي لا الذاتي، أي أن مفادها الحرمة التشريعية لا الحرمة الذاتية، وليس مفادها الإرشاد لا الإرشاد إلى حكم العقل ولا الإرشاد إلى عدم حجية الظن بل مفادها الحرمة التكليفية التشريعية.

وعلى هذا فالسيرة العقلائية بعد حجيتها واردة على الآية المباركة لأن سيرة العقلاء بعد إمضائها وحجيتها تكون أخبار الثقة حجة وحينئذ يجوز إسناد مؤداها إلى الشارع قطعا كما يجوز الاستناد إليه في مقام العمل قطعا.

فأخبار الثقة بعد حجيتها تكون واردة على الآية ورافعة لموضوعها فإن موضوع الآية المباركة الافتراء والعمل بأخبار الثقة ليس بافتراء قطعا بل الشارع أجاز ذلك.

فتقديم السيرة العقلائية على الآية الكريمة وما شاكلها إنما هو من باب الورود، وعلى هذا فإن ما ذكره السيد الاستاذ(قده) من ان مفاد الآية إرشاد إلى ما استقل به العقل لا يمكن المساعدة في مثل هذه الآية المباركة، فإن مفاد هذه الآية وما شاكلها ليس إرشادا بل هو حكم تكليفي تشريعي وهذا الحكم التكليفي يدور مدار الافتراء على الله تعالى وتقدس وعدم الافتراء، بل لا قرينة على الإرشاد.

ودعوى ان هذه الآية غير قابلة للتخصيص وهو قرينة على الإرشاد فإن حكم العقل بلزوم تحصيل المؤمن غير قابل للتخصيص فعدم قبول هذه الآية للتخصيص قرينة على أن مفادها الإرشاد [هذه الدعوى] ليس الأمر فيها كذلك فإن مفاد هذه الآية واضح وهو حرمة الافتراء وحرمة الافتراء غير قابلة للتخصيص إذ لا يعقل أن يكون الافتراء على الله جائزا فهذا الأمر غير محتمل إذ ما دام يصدق عليه الافتراء فهو غير جائز.

وعلى هذا فالسيرة العقلائية بعد حجيتها واردة على هذه الآية وان العمل بها ليس افتراء على الله تعالى.

ثم أن هذه الآية مسوقة بنحو القضية الحقيقية كما هو الحال في جميع الآيات الناهية والآيات الآمرة والسنة إلا في بعض الموارد فإن الآيات والروايات التي هي في مقام التشريع مفادها قضية حقيقية ونقصد بالقضية الحقيقية أن الحكم الشرعي مجعول في هذه القضية للموضوع المقدر وجوده في الخارج اما أن الموضوع موجود او غير موجود فالقضية لا تدل على ذلك، لأن القضية تدل على أن هذا الحكم ثابت للموضوع على تقدير وجوده في الخارج وأما أن هذه التقدير ثابت أو غير ثابت فليس للقضية نظر إليه، مثلا قوله تعالى: [وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا][3] تدل على وجوب الحج عل المستطيع على تقدير وجوده في الخارج واما أن المستطيع موجود أو غير موجود فالآية لا تدل على ذلك ومن هنا ترجع القضية الحقيقية إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول، وثبوت المحمول للموضوع بنحو القضية الشرطية يعني على تقدير وجود الموضوع فالمحمول ثابت له كما هو الحال في جميع القضايا الشرعية التي وردت في مرحلة جعل الأحكام الشرعية.

فمفاد هذه الآية هو حرمة الافتراء على الله تعالى وأما أن هذه الشيء افتراء أو ليس بافتراء فالآية لا تدل على أنه افتراء او ليس افتراء، بل تدل على أنه على تقدير كونه افتراء فهو حرام واما ان هذا التقدير ثابت أم ليس بثابت فالآية ساكتة عن ذلك.

فالنتيجة أن هذه الآية لا يكون مفادها الإرشاد بل مفادها الحكم التكليفي المولوي التشريعي وان سيرة العقلاء بعد حجيتها واردة على هذه الآية ورافعة لموضوعها وجدانا.

فما ذكره السيد الاستاذ(قده) لا ينطبق على هذه الآية وما شاكلها.


[1] النجم/السورة53، الآية28.
[2] سورة يونس، آية59.
[3] سورة آل عمران، آية97.