آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

38/01/17

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد – السيرة العقلائية

إلى هنا قد تبين أن الآيات الكريمة غير ظاهرة في أن مضامينها ثابتة في صدر الإسلام ولكن بيانها متأخر زمنا غير ظاهرة في ذلك؛ فإن جعل الأحكام الشرعية في زمن النبي الأكرم(ص) كان تدريجيا، وهذا الجعل إما من خلال إبلاغ النبي الأكرم(ص) بالوحي أو بإبلاغ جبرئيل له؛ فإذا وصل إليه الوحي أو أبلغ من قبل جبرئيل بالحكم الشرعي فيقوم النبي الأكرم(ص) ببيانه، فزمان الجعل هو زمان البيان ولا يكون البيان في الخطابات القرآنية أو في السنة متأخرا عن زمن الجعل.

وعلى هذا فالآيات الكريمة متأخرة عن السيرة زمنا وكذا جعل مضامينها فيكون المقام داخلا في تلك الكبرى وهي دوران الأمر بين الخاص المتقدم والعام المتأخر فهل الخاص المتقدم يكون مخصصا للعام المتأخر أو أن العام المتأخر يكون ناسخا للخاص المتقدم.

نعم يحتمل أن تكون الأحكام الشرعية بكافة أصنافها وأقسامها قد نزلت على قلب النبي الأكرم(ص) وأن الشارع يعلّم النبي الأكرم(ص) بجميع الأحكام بكافة أصنافها وأقسامها ولكن بيانها يكون تدريجيا من حيث الزمن بمقتضى المصالح العامة بين الناس.

ولكن هذا مجرد احتمال ولا دليل على ذلك. نعم الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار(ع) ظاهرة في أن مضامينها ثابتة في زمن النبي الأكرم(ص)؛ لأن الوحي أنقطع بعد النبي الأكرم(ص) وما صدر من الأئمة الأطهار هو ما تعلموه من النبي الأكرم(ص).

فإذن العمومات والمطلقات الصادرة من الأئمة الأطهار ظاهرة في ثبوت مضامينها في زمن النبي الأكرم، وعلى هذا فإذا صدر خاص من إمام متقدم وصدر عام من متأخر، فصدور العام متأخر وصدور الخاص متقدم كما إذا صدر خاص من الإمام الباقر(ع) والعام من الإمام الصادق(ع)، فإن علمنا انهما كذلك في زمن الوحي أيضا فعندئذ يدخل في تلك الكبرى، وهي دوران الأمر بين الخاص المتقدم والعام المتأخر، وإن لم يعلم بذلك لاحتمال أنهما متقارنين أو احتمال أن وحي الخاص متأخر عن وحي العام فعندئذ لم نحرز ان المقام من صغريات تلك الكبرى.

وقد يناقش في المقام بأن سكوت النبي الأكرم(ص) في صدر الإسلام عن ردع هذه السيرة الجارية بين الناس كاشف عن إمضائها فعلا، فعلى هذا يكون المقام داخلا في تلك الكبرى فإن الخاص متقدم على العام فالآيات الناهية عن العمل بالظن بعموماتها وإطلاقاتها متأخرة زمنا عن السيرة العقلائية الممضاة شرعا وان سكوت النبي الأكرم(ص) عن ردع هذه السيرة في صدر الإسلام كاشف عن إمضائها فعلا فعندئذ يدخل في تلك الكبرى.

ولكن هذا البناء خاطئ؛ فإن سكوت النبي الأكرم(ص) لعله من جهة عدم وصول الوحي إليه فإنه(ص) (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[1] ولا فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية وبين الإمضاء فلا يمكن صدور الردع عن النبي الأكرم بدون الوحي به، فسكوته لعله من جهة عدم وصول الإمضاء إليه من قبل الوحي او جبرئيل، فمجرد السكوت لا يكون كاشفا عن الإمضاء فعلا، لأن السكوت قد يكون من جهة عدم وصول الإمضاء إليه أو لوجود مانع آخر.

ولكن هذا القول قابل للمناقشة؛ فإن العمل بهذه السيرة العقلائية ـــ الجارية بين الناس والمرتكزة في أذهانهم ـــ لو كان فيه خطر على الأغراض الشرعية والمصالح الدينية وفي العمل بها مفاسد نوعية فلا شبهة في أن الشارع ــ وهو الله تعالى ــ أمر نبيه الأكرم(ص) بالردع عنها وبالمنع عن العمل بها من جهة ان العمل فيها خطر على الشريعة المقدسة والمصالح الدينية وفيها مفاسد نوعية، فإذا كان الأمر كذلك فبطبيعة الحال قد صدر أمر من الله تعالى إلى نبيه(ص) بالردع عن هذه السيرة. فسكوت النبي الأكرم(ص) وعدم صدور الردع عنه يكشف أنه لا خطر في العمل بها على المصالح والأغراض الدينية وليس في العمل بها مفاسد، فيكون سكوت النبي الأكرم(ص) كاشف عن الإمضاء وعدم الردع فعلا...هذا من جانب

ومن جانب آخر إن المقام خارج عن محل الكلام فإن الدليل المخصص في المقام هو السيرة العقلائية والسيرة دليل لبي فلا ظهور لها في العموم الأزماني وأما الكبرى المذكورة فإنما هي بين العام اللفظي والخاص اللفظي فإن الخاص اللفظي ظاهر في العموم الأزماني والعام المتأخر ظاهر في العموم الأفرادي ولهذا يقع التعارض بينهما، بين تقديم العام الأزماني على العام الأفرادي او بالعكس وتقديم العام الأفرادي وجعله ناسخا للعام الأزماني وتقيد هذا العام بفترة خاصة من الزمن لا بجميع الأزمنة.

فإذن الخاص المتقدم ظاهر في العموم الأزماني وان هذا الحكم الخاص ثابت في تمام الأزمنة إلى يوم القيامة وأما العام المتأخر فظاهر في العموم الأفرادي حتى أفراد الخاص، فالجمع بينهما لا يمكن. فإما أن نرفع اليد عن الخاص الظاهر في العموم الأزماني ويقيد العام بغير أفراد الخاص او نأخذ بعموم العام المتأخر ونرفع اليد عن ظهور الخاص في العموم الأزماني ونقيده بفترة خاصة من الزمن وكأن العام المتأخر ناسخ له ويوجب تخصيصه بفترة خاصة من الزمن.

واما إذا كان الدليل الخاص لبيا فلا ظهور له في العموم الأزماني لكي تقع المعارضة بين الخاص المتقدم والعام المتأخر فلا معارضة بينهما.

وأيضا فرق بينهما فإن الدليل الخاص إذا كان لبيا كالسيرة فحجيته منوطة بإحراز إمضائه ومع الشك في الإمضاء ومع الشك في أن العام المتأخر ناسخ له لم نحرز حجيته فتكون حجيته مشكوكة والشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها بينما إذا كان الخاص دليلا لفظيا ظاهرا في العموم الأزماني وهذا الظهور حجة ولا نرفع اليد عن حجية هذا الظهور بمجرد احتمال أن العام المتأخر ناسخ لأن مجرد هذا الاحتمال لا قيمة له، وكذلك الأمر بالعكس فإن العام ظاهر في العموم الأفرادي وهذا الظهور حجة ولا نرفع اليد عن حجية الظهور بمجرد احتمال ان الخاص المتقدم مخصص له كذلك لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في العموم الأفرادي.

ولكن مع ذلك ذكرنا في مبحث العام والخاص أن الخاص مقدم على العام بلا فرق بين كونه متأخرا عن العام او مقارنا له او متقدما عليه لأن الخاص بنظر العرف قرينة مفسرة للمراد النهائي الجدي من العام وحينئذ لا يفرق فيه بين كونه متقدما او متأخرا او مقارنا مع العام.


[1] النجم/السورة53، الآية3 - 4.