آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

37/12/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أدلة حجية خبر الواحد ـــــــــــ السيرة

المقدمة الثالثة: الفرق بين سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء، إذا كانت السيرة موجودة في عصر التشريع فإن كانت السيرة سيرة المتشرعة فلا مجال للبحث عن إمضائها وعدم إمضائها وردعها وعدم الردع عنها وإن سيرة المتشرعة بنفسها حجة ومستندة إلى الشرع، ولا معنى للبحث عن إمضائها وعدم إمضائها، فإن هذا البحث فيه تهافت وتناقض لأن معنى البحث عن إمضائها انها ليست مستندة إلى الشرع وليست حجة في نفسها والمفروض أنها مستندة إلى الشرع بنفسها وحجة.

فمن أجل ذلك لا موضوع لهذا البحث إن كانت السيرة الموجودة في عهد التشريع سيرة المتشرعة.

وأما لو كانت السيرة الموجودة في عهد التشريع هي سيرة العقلاء فلهذا البحث مجال لأن سيرة العقلاء ليست مستندة إلى الشرع بل هي مستندة إلى عوامل أخرى كالعوامل الارتكازية أو المصالح العامة الارتكازية، فالسيرة العقلائية ليست مستندة إلى الشرع وليست بنفسها حجة فلهذا يفحص عن ان الشارع ردع عنها ومنع عن العمل بها أو انها ليست بمردوع عنها بل هي ممضاة شرعا، فإذا أمضاها الشارع تحولت من السيرة العقلائية البحتة إلى السيرة المتشرعية.

المقدمة الرابعة: أن السيرة العقلائية بما أنها مرتكزة في الأذهان أي ناشئة من العوامل الارتكازية في الأذهان وفي أنفس الناس كالجبلة والفطرة، ومع فرض كون السيرة العقلائية مخالفة للأغراض التشريعية ولها خطر على المصالح الدينية وفيها مفاسد ففي مثل ذلك لا بد للشارع من الردع عنها، ولا يمكن ردعها ببيان واحد وإصدار نص واحد لأن إزالة هذا الارتكاز عن أنفس الناس وقلع جذوره منهم بحاجة إلى بيانات متعددة والتشديد والتأكيد في كل مناسبة وفي كل اجتماع حتى يمكن إزالة هذا الارتكاز من أنفس الناس وقلع جذوره وإلا فهي باقية.

فإذن تبديل هذا الارتكاز بالارتكاز الملائم للمصالح والأغراض الشرعية بحاجة إلى بيانات متعددة والتأكيد على بيان مفاسد هذا الارتكاز ومدى خطورتها على الأغراض التشريعية.

هذا بالنسبة إلى أصل السيرة العقلائية المرتكزة في الأذهان.

النقطة الخامسة: في حجيتها فإن حجية هذه السيرة شرعا منوطة بإحراز إمضائها من الشارع، فإذا علمنا أن الشارع أمضى هذه السيرة فهي حجة وحينئذ تكون سيرة متشرعة بعنوان ثانوي وإن كانت سيرة عقلائية بعنوانها الأولي، فإذا أحرزنا إمضائها وعدم صدور الردع عنها نعلم بانها حجة منجزة للواقع ومعذرة لأن هذه السيرة حجة وتدل على حجية خبر الثقة، وأن خبر الثقة بعد حجيته منجز عند مطابقته للواقع ومعذر عند عدم مطابقته للواقع.

وأما إذا شككنا في إمضاء هذه السيرة فلا يمكن الحكم بحجيتها.

وما عن المحقق الأصفهاني[1] (قده) من أن هذه السيرة حجة حتى عند الشك في الردع عنها وعند الشك في إمضائها فهو غريب من مثله(قده) فإن الشك في الإمضاء مساوق للشك في حجيتها والشك في الحجة مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية وعدم ترتيب آثار الحجية عليها كما هو الحال في الأمارات، فإن الشك في حجية الأمارة أي في جعل الحجية لها مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية وعدم ترتيب الآثار عليها.

إلى هنا قد تم الكلام في المرحلة الأولى. وهي مرحلة حجية سيرة العقلاء والفرق بينها وبين السيرة المتشرعية، وقد تبين أن سيرة العقلاء ناشئة من العوامل الارتكازية والثابتة في أذهان الناس وانفسهم كالجبلة والفطرة.

وأما الكلام في المرحلة الثانية فهل الآيات الناهية عن العمل بالظن كقوله تعالى: (إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[2] أو قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[3] وما شاكلهما من الآيات والروايات فهل هذه الآيات الناهية عن العمل بالظن وتدل على حرمة العمل به تصلح للردع عن هذه السيرة أو لا تصلح للردع عنها؟

قد يقال كما قيل: انها تصلح للردع عن هذه السيرة، وأنها تدل على حرمة العمل بالظن ولا شبهة في أن الظن بإطلاقه يشمل جميع أخبار الآحاد ومنها خبر الثقة فإن خبر الثقة ليس علما بل هو من أفراد الظن، فتشمله الآيات الناهية عن العمل بالظن بإطلاقها وعندئذ نشك في حجية هذه الأخبار لصلوح هذه الآيات للردع عن هذه السيرة، ولا محالة حينئذ من دلالة هذه الآيات على عدم حجية اخبار الآحاد مطلقا ومنها أخبار الثقة بالمطابقة، ودلالتها على الردع عن السيرة العقلائية بالالتزام.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني(قده)[4] من أن السيرة العقلائية الجارية على العمل بأخبار الثقة حاكمة على هذه الآيات ومقدمة على هذه الآيات ولا تصلح هذه الآيات لمعارضة السيرة.

وقد أفاد في وجه ذلك: أن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فالسيرة العقلائية تدل على أن أخبار الثقة علم غاية الأمر أنها علم تعبدا لا علم وجدانا وأخبار الثقة طريق إلى الواقع وكاشف عن الواقع وعلم بالواقع تعبدا، فإذا كانت أخبار الثقة علم تعبدا فحينئذ تكون هذه السيرة رافعة لموضوع هذه الآيات تعبدا وهذا هو معنى الحكومة لأن موضوع هذه الآيات هو الظن أو عدم العلم، والمفروض ان خبر الثقة علم تعبدا وبحكم الشارع.

ومن هنا لا بد من تقديم السيرة على هذه الآيات ولا تصلح هذه الآيات لردع عن هذه السيرة.

والجواب عن ذلك: قد تقدم منّا كثيرا حيث ذكرنا أن هذا المبنى لا يمكن الأخذ به ثبوتا وإثباتا.

أما ثبوتا فلأن الطريقية التكوينية غير قابلة للجعل سواء كانت قطعية ام كانت ظنية، فطريقية القطع قطعية تكوينية فهي غير قابلة للجعل التشريعي ولا يمكن تكوين الشيء بالتشريع، فإن الجعل عين المجعول فلو أمكن تكوين الشيء بالجعل التشريعي لزم الخلف أي لزم كون الجعل التشريعي جعلا تكوينيا، كما أن الإيجاد عين الوجود فلا اختلاف بينهما إلا بالاعتبار ولهذا لا يعقل تكوين الشيء بالجعل التشريعي، فالجعل التشريعي لا يمكن ان يتعلق بالطريقية التكوينية، فالطريقية التكوينية ثابتة تكوينا بمقتضى عللها وأسبابها ولا يمكن تعلق الجعل التشريعي بها سواء كانت تلك الطريقية ظنية أم قطعية.

واما الطريقة الشرعية فهي وإن كانت قابلة للجعل إلا أن معنى الطريقية الشرعية هو جعل الآثار من الوجوب أو الحرمة او ما شاكل ذلك لا جعل الطريقية، فإن جعل الطريقية لأخبار الثقة مجرد لقلقة لسان ولا يؤثر في طريقية أخبار الثقة لا تكوينا كما هو واضح ولا تشريعا نعم يؤثر في جعل الآثار لهذه الطريقية التكوينية.

ومن هنا لا يمكن أن يكون المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي بل هو مجرد لقلقة لسان ولا يمكن تعلق الجعل التشريعي بالتكوين وإلا لزم الخلف كما تقدم لأن المجعول عين الجعل فالمجعول لو كان أمرا تكوينيا فالمجعول أيضا أمرا تكوينيا، ولا يعقل الاختلاف بينهما كالإيجاد والوجود.

هذا كله بحسب مقام الثبوت.


[1] نهاية الدراية في شرح الكفاية، المحقق الأصفهاني، ج3، ص248.
[2] سورة يونس، آية36.
[3] سورة الأسراء، آية36.
[4] أجود التقريرات، تقرير بحث المحقق النائيني للسيد الخوئي، ج2، ص115.