الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

37/04/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: التواتر.
ذكرنا ان التواتر عبارة عن اخبار عدد هائل من الناس عن قضية واحدة كما وكيفا وزمانا ومكانا الى ان وصل الى حد التواتر. وهذا التعريف للتواتر يتضمن مقدمتين:
المقدمة الأولى: بمثابة الصغرى وهي مقدمة محسوسة وعبارة عن اخبار جماعة كثيرة عن قضية موحدة زمانا ومكانا وكما وكيفا.
القضية الثانية: بمثابة الكبرى وهي حكم العقل باستحالة تواطؤهم واجتماعهم على الكذب.
وهذه الاستحالة وإن لم تكن ذاتية لكنها استحالة وقوعية فإنه لا يمكن اجتماعهم على الكذب واتفاقهم عليه باعتبار ان كثير منهم لو لم يكن جميعهم لا يطلع على أخبار الآخر، فكل واحد مستقل في أخباره سواء كان مطلعا بأخبار الآخر بالقضية أيضا ام لم يكن مطلعا ومن هنا تواطؤهم على الكذب مستحيل وقوعا وان كان ممكنا ذاتا.
وتطبيق الكبرى على الصغرى نتيجته اليقين بصدق القضية المتواترة.
وهذا المقدار واضح.
وإنما الكلام في أن هذه الكبرى وهي حكم العقل باستحالة تواطؤهم على الكذب واستحالة الصدفة الى النهاية هل هي كبرى عقلية قبلية ومن القضايا الأولية الستة التي هي مبدأ كافة العلوم النظرية كمبدأ عدم التناقض وغيره او انها نتيجة التجربة وتراكم الاحتمالات وتقييمها؟ فالنزاع انما هو في  ذلك.
فهنا قولان:
القول الأول: للمناطقة وهو المنطق الأرسطي وهو يقول ان هذه القضية قضية اولية وهي من القضايا الستة ومبدأ جميع العلوم النظرية كمبدأ العلية ومبدأ عدم التناقض ونحوهما، فإن استحالة التواطؤ قضية عقلية قبلية وكذلك استحالة الصدفة النسبية من القضايا العقلية القبلية فتطبيق هذه القضية على الصغرى المحسوسة نتيجتها اليقين بصدق القضية المتواترة، والصدفة النسبية وان لم تكن محال ذاتا ولكنها مستحيلة وقوعا وكذلك التواطؤ والاتفاق على الكذب مستحيل وقوعا ولكنه ممكن ذاتا.
نعم المستحيل ذاتا هو الصدفة المطلقة لأن معناها وجود المعلول بدون علة وهذا مستحيل ذاتا وأما الصدفة النسبية فهي متمثلة في التقارن بين حادثتين بدون علاقة العلية والسببية بينهما، فالتقارن مبني على الصدفة والاتفاق بدون علاقة السببية والعلية بينهما فالصدفة النسبية عبارة عن تقارن بين ظاهرتين وحادثتين بدون علاقة السببية والعلية بينهما وإن كان كل واحد من الحادثتين نتيجة توفر علتها لأن كل منها معلول لعلته وأما التقارن بينهما فهو اتفاقي بدون علاقة السببية بينهما فلا تكون أحدى الحالتين سببا وعلة لحادث أخرى.
ولكن الكلام هل هذه الصدفة النسبية قضية عقلية قبلية ومن القضايا الأولية الستة او انها نتيجة تجربة فإنها تكشف عن ذلك؟ فهنا نظريتان نظرية المناطق القديم ونظرية التجربة الجديدة.
ولكن كلتا النظريتان خارجتان عن محل كلامنا.
فيقع الكلام في أقسام التواتر.
فالتواتر تارة يكون إجماليا وأخرى يكون معنويا وثالثة يكون لفظيا.
أما التواتر الاجمالي فهو اخبار جماعة هائلة ولكن كل واحد منهم أخبر عن قضية مستقلة لا ترتبط بما اخبر به الآخر من القضايا المتعددة المتباينة والاشتراك في القضية قليل بينهم، نعم قد يكون أخبر جماعة منهم عن قضية واحدة ولكن أكثرهم وغالبهم ليس الأمر فيه كذلك وكل واحد منهم اخبر عن قضية مستقلة موضوعا وحكما.
وإذا بلغ عدد المخبرين الى حد التواتر فاحتمال الكذب في كل واحد من هذه الأخبار المتواترة اجمالا موجود بنسبة خمسين% او ستين% او أكثر او أقل ولكن احتمال الكذب في الجميع غير موجود إذ لا يحتمل ان يكون الدافع على الكذب شيئا واحدا لأن كل واحد أخبر عن قضية لا يطلع بأخبار شخص آخر عن قضية اخرى فكيف يتصور أن يكون هناك دافع واحد للكذب بينهم، فاحتمال كذب الجميع غير محتمل.
واحتمال الكذب صدفة واتفاقا للجميع غير محتمل لأن الصدفة لا تدوم وتستمر، فنعلم اجمالا بصدق بعضها ولو واحد منهم.
فيقع الكلام في أن هذا العلم الاجمالي هل هو منجز او انه لا يكون منجزا؟
والجواب: ان تنجيزه منوط بتوفر أمرين وشرطين:
الشرط الاول: ان يكون المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا على كل تقدير أي سواء كان في هذا الخبر او ذاك او الخبر الثالث او الرابع، ومعنى هذا ان جميع هذه الأخبار  متكفلة للحكم الإلزامي. كما إذا نعلم بنجاسة أحد الإناءين فإن هذا العلم الاجمالي انما يكون منجزا فيما إذا كان المعلوم بالإجمال موجودا على كل تقدير سواء كان في هذا الأناء ام في ذاك.
وأما إذا كان بعض هذه الأخبار متكفلا للأحكام الترخيصية وبعضها الآخر متكفل للأحكام الإلزامية فلا يكون المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا على كل تقدير، فإنه لا أثر لهذا المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى الأخبار المتكفلة للأحكام الترخيصية إذا كان منطبقا على هذه الأخبار.
وأما انطباقه على الأخبار المتكفلة للحكم الإلزامي فهو مشكوك بالشك البدوي فالمرجع هو الأصول المؤمنة كالبراءة او الاستصحاب او نحوهما.
فإذن تنجيز العلم الاجمالي منوط بتوفر هذا الشرط وهو كون المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا على كل تقدير.
الشرط الثاني: ان لا يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف من أطرافه ضعيفا بدرجة يكون هذا الاحتمال موهوما، لأنه لو كان كذلك فبطبيعة الحال يكون عدم انطباقه على كل طرف من أطرافه بدرجة الاطمئنان.
فإذا فرضنا ان هناك ألف مخبر وعلمنا اجمالا بصدق خبر واحد فإذن انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من اطرافه بدرجة واحد من ألف وأما احتمال عدم انطباقه على كل واحد من اطرافه 999 من ألف، ومن الواضح وصوله الى درجة الاطمئنان، فإذا وصل احتمال عدم الانطباق الى درجة الاطمئنان فيكون حجة عند العقلاء وهو ممضى شرعا وحينئذ نعمل بالاطمئنان ولا أثر للعلم الاجمالي.
فإذن العلم الاجمالي ينحل بوجود الاطمئنان في أطرافه والاحتمال الموهوم في الطرف الآخر.
فقيمة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال إذا كان واحد من ألف فهي موهومة وأما قيمة احتمال عدم انطباقه على كل واحد من اطرافه فهي 999 من ألف وهي بدرجة الاطمئنان فإنه كلما ضعفت قيمة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف من اطرافه كبرت قيمة احتمال عدم انطباقه على كل طرف من اطرافه بنفس النسبة وفي مثل ذلك ايضا لا يكون العلم الاجمالي منجزا.
فإذن لا بد في تنجيز العلم الإجمالي ان يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف من اطرافه ضعيفا بدرجة يكون موهوما لأنه بوصوله الى هذه الدرجة يكون احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف بدرجة الاطمئنان فيكون حجة.
فينحل العلم الإجمالي بالاطمئنان في بعض أطرافه والوهم في الطرف الاخر فلا أثر لهذا العلم الإجمالي.