الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

37/04/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الاجماع ـــ قاعدة اللطف
كان كلامنا في قاعدة اللطف وذكرنا ان الشيخ(قده) قد بنى ان حجية الاجماع مبنية على هذه القاعدة وذكر المتكلمون ان هذه القاعدة مبنية على العدل الآلهي ولطفه وحكمته تعالى وتقدس ونقصد بها أدراك العقل ما  هو واجب على الله تعالى بحكم كونه عادلا ولهذا قد استدل بها على نبوة نبينا محمد (ص) وعلى ارسال الرسل وانزال الكتب وتبليغ الأحكام.
واما الشيخ فقد بنى حجية الاجماع على هذه القاعدة لأن الفقهاء اذا أجمعوا على حكم في مسألة وكان اجماعهم خطأ وغير مطابق للواقع فالله تعالى بمقتضى لطفه وحكمته يلقي الخلاف بينهم وينصرف ذهن بعضهم عن هذه المسألة الى اختيار مسألة اخرى بديلا عنها وهذه المسألة الأخرى مطابقة للواقع. أو يأمر الله تعالى الأمام بإلقاء الخلاف بينهم وانصراف ذهن بعضهم عن حكم هذه المسألة واختيار حكم أخر في مسألة اخرى.
هذا هو مقتضى قاعدة اللطف وحكمته تعالى وتقدس.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول:في أصل ثبوت هذه القاعدة.
المقام الثاني: ان هذه القاعدة هل تصلح ان تكون تصحيحا لفتاوى الفقهاء وان تكون حجية الاجماع مبنية على هذه القاعدة او لا تكون صالحة لذلك؟
أما الكلام في المقام الأول فقد يقال كما قيل أن هذه القاعدة غير ثابتة لأن معنى هذه القاعدة تعين التكليف على الله تعالى وهو غير معقول ويستحيل أدراك العقل ما هو تكليف على الله تعالى، فمن اجل ذلك لا يمكن الالتزام بهذه القاعدة.
والجواب عن ذلك: ان معنى هذه القاعدة ليس تعيين التكليف على الله تعالى بل معناها أدراك العقل الفطري ان كل ما يصدر من الله تعالى فهو مقتضى حكمته  ومقتضى لطفه وعدله كما يدرك ما هو مقتضى قدرته الذاتية تعالى وتقدس ومقتضى علمه الذاتي كذلك يدرك ان كل ما صدر من الله تعالى من إرسال الرسل وانزال الكتب وتبليغ الأحكام فهو من متطلبات هذه القاعدة ومقتضى لطفه تعالى وعدله.
هذا هو معنى هذه القاعدة لا تعين التكليف على الله تعالى بل العقل يدرك ان كل ما يصدر من الله تعالى فهو مقتضى حكمته ولطفه وعدله ولهذا لا شبهة في ثبوت هذه القاعدة، إذ من الضروري ان كل ما صدر من الله تعالى فهو مقتضى حكمته ومقتضى عدله ولطفه فهذا مما لا شبهة فيه.
وأما الكلام في المقام الثاني فلا شبهة في أن إرسال الرسل للبشر وإنزال الكتب عليهم وتبليغ الأحكام لهم من متطلبات هذه القاعدة بمقتضى حكمته ولطفه وعدله بغرض إنقاذ البشر من المهالك الدنيوية والأخروية وإخراجهم من الظلمات الى النور ومن الضلالة الى الهداية وتهذيب سلوكياتهم في الخارج وتزويدهم بروح الإيمان بالوحدانية والرسالة وتزويدهم بالملكات الفاضلة والأخلاق السامية، فإن الدين الإسلامي يراعي جنبتين: جنبة العقيدة، وجنبة العمل لأن العقيدة تصحح عمل الإنسان في الخارج وتهذب سلوكياته في الخارج وتؤثر في تعديل سلوكياته وتمنع من الانحرافات فإن روح الإيمان والملكات الفاضلة والأخلاق السامية لها تأثير كبير في سلوكيات الإنسان في الخارج ومنعها عن الانحرافات فهذا مما لا شبهة فيه.
وأما ما ذكره شيخ الطائفة من ان حجية الاجماع مبنية على هذه القاعدة فلا يمكن المساعدة عليه بل لا يرجع الى معنى معقول، فإن الفقهاء إذا أجمعوا على حكم في مسألة وفرضنا ان اجماعهم كان خاطئ وغير مطابق للواقع فعلى الله تعالى بمقتضى لطفه وحكمته وعدله إلقاء الخلاف بينهم وانصراف إذهان بعضهم عن هذه المسألة باختيار مسألة اخرى بديلة عنها والمسألة الأخرى هي المطابقة للواقع واما الاجماع فغير مطابق للواقع، فهذا في نفسه  غير معقول.
فإن لازم ذلك أنا إذا فرضنا في عصر يكون المجتهد منحصرا بفرد واحد فلازم ذلك ان تكون فتاويه جميعا من اول الطهارة الى آخر الديات مطابقة للواقع بمقتضى هذه القاعدة وهذا غير معقول وغير متصور ومعنى ذلك ان رسالته العملية كالسنة النبوية فإنها مطابقة للواقع ولا يجوز لأي فرد مخالفته لا في زمانه ولا في الزمان القادم ولا يجوز لأي أحد أن يقوم بعملية الاجتهاد على خلافه لأن خلافه خلاف السنة لفرض ان فتاويه جميعا مطابقة للواقع فكيف يعقل مخالفته لأن مخالفته مخالفة للواقع وهو مما لا يمكن الالتزام به، فلا بد من العمل على طبق فتاويه طول القرون الى ظهور إمام العصر(ع) وهذا أمر غير معقول وغير متصور، فكيف التزم شيخ الطائفة بذلك؟!
فالنتيجة ان حجية الاجماع لا يمكن ان تكون مبنية على هذه القاعدة فلا يمكن ان تكون هذه القاعدة لتصحيح فتاوى الفقهاء في المسائل الفقهية النظرية.
هذا تمام كلامنا في هذه القاعدة.
الوجه الثالث: ذكرنا في أول البحث انه قد استدل على حجية الاجماع بوجوه كان الاول منها أن الاجماع يكون كاشفا عن قول المعصوم(ع) او عن ثبوت الحكم بالواقع، وكان الثاني منها قاعدة اللطف.
واما الثالث: فهو الرواية المرسلة النبوية الواردة وهي أن النبي الكرم(ص) قال: (لا تجتمع على ضلالة). وقد ورد في رواية أخرى (لا تجتمع أمتي على ضلالة)[1].
فإنه يستدل بهذه الرواية على ان الاجماع حجة فإن الفقهاء لا يجتمعون على الضلالة وعلى الخطأ بمقتضى هذه الرواية.
ولكن الاستدلال بهذه الرواية غير ممكن:
أولا: أنها رواية ضعيفة سندا ولم تكن هذه الروايات في كتبنا ولم تثبت من طرقنا، فهي روايات نبوية مرسلة ولا تكون حجة ولا يمكن العمل بها.
وثانيا: لعل النبي الأكرم(ص) قال لا تجتمع على ضلالة من جهة وجود الأمام المعصوم بين الأمة.
وثالثا: ان الوارد في الرواية هو الاجتماع على الضلالة ومعنى  الضلالة العصيان والتمرد ومن الواضح ان خطأ المجتهد ليس عصيانا وليس أثما لأن المجتهد إذا أخطأ في عملية الاستنباط من دون مسامحة لا يكون خطأه جرما وعصيانا وإثما بل له اجر فكيف يكون خطا المجتهد ضلال وعصيان.
هذا مضافا الى ان هذه الروايات خلاف الوجدان والضرورة إذ لا شبهة في ان الأمة تجتمع على الضلال خارجا، ولا يمكن تصديق هذه الروايات. فكيف يمكن تصديق أن النبي الأكرم(ص) قد اخبر بذلك.
هذا مضافا الى ان كلمة (لا) في الرواية ناهية لا نافية فيكون المعنى أن النبي الأكرم(ص) نهى الأمة من الاجتماع على ضلالة وحينئذ تكون القضية قضية إنشائية لا خبرية.
وكيف ما كان فالاستدلال بهذه الرواية ساقط.
إلى هنا قد تبين انه لا يمكن إثبات حجية الاجماع لا بالكشف عن قول المعصوم(ع) او عن ثبوت الحكم في الواقع ولا بقاعدة اللطف ولا بالروايات.
ويقع الكلام في الشهرة.
ولا شبهة في ان الشهرة لم تكن حجة لأنه إذا لم يكن الاجماع حجة فالشهرة بطريق أولى فإن الاجماع اتفاق كل العلماء والشهرة اتفاق جل العلماء لا الكل فإذا لم يكن اتفاق كل  العماء حجة فاتفاق جلهم بطريق اولى.
ولكن مع ذلك قد استدل على حجية الشهرة بوجوه:
الوجه الاول: ان ملاك حجية خبر  الواحد موجود في الشهرة أيضا وهو إفادة الظن لأنها هي ملاك حجية خبر الواحد وهذا الملاك موجود في الشهرة ايضا بل الشهرة قد تفيد الظن أقوى مما يفيده خبر الواحد فمن اجل ذلك لا مانع من الحكم بحجية الشهرة وان دليل حجية خبر الواحد يشمل الشهرة ايضا من جهة ان ملاك حجية خبر الواحد موجود في الشهرة بل قد يكون أقوى.
والجواب عن ذلك ان خبر الواحد مطلقا لا يكون حجة حتى يقال ان ملاك حجيته إفادة الظن بل الحجة انما هير خبر الثقة وحجية خبر الثقة مبنية على إفادته الوثوق والاطمئنان النوعي بالواقع وليست حجية خبر الثقة من باب إفادته الظن بل حجية خبر الثقة دون غيره من جهة انه يفيد الوثوق والاطمئنان النوعي بالواقع دون غيره. فمن اجل ذلك يكون مشمولا لدليل الحجية كالسيرة القطعية من العقلاء الممضاة شرعا. والمفروض ان الشهرة الفتوائية لا تفيد الوثوق والاطمئنان النوعي حتى يكون ملاك حجية خبر الثقة موجودا فيها.
فالنتيجة ان هذا الوجه غير تام.                                     


[1] سنن أبي داود ج:2، ص302 والمعجم الكبير للطبراني ج:3، ص:292، 344..