آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

37/02/08

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: حجية الظواهر

إلى هنا قد تبين ان حجية أصالة الظهور كبروياً مما لا إشكال فيها وهي أمر متسالم عليه بين الفقهاء وإنما الخلاف في صغرياتها ويقع الكلام فيها في مجموعة من المقامات:

المقام الاول: في تعيين موضوع أصالة الظهور وتحديده سعة وضيقا.

المقام الثاني: هل حجية الظواهر مقيدة بعدم قيام الظن غير المعتبر على خلافها او لا تكون مقيدة بذلك؟

وعلى الثاني فهل يعتبر في حديتها إفادة الظن بالمطابقة او لا يعتبر ذلك؟

المقام الثالث: في ان حجية الظواهر هل تختص بمَن قُصد افهامه او تعم مَن لم يقصد؟

المقام الرابع: التفصيل بين حجية الظواهر في الكتاب وحجية الظواهر في السنة.

أما الكلام في المقام الأول فيمكن تصنيف الدليل الى ثلاثة أصناف بحسب مدلوله التصديقي:

الصنف الاول: ان يكون مدلوله مرددا بين أمرين متكافئين أو بين أمور متكافئة كالعين التي هي مشتركة بين معانٍ متكافئة وكالقُرء الذي هو مشترك بين معنيين متكافئين ويسمى الدليل في هذه الحالة بالدليل المجمل بحسب الإرادة التصديقية ولا نعلم ان المتكلم بهذا اللفظ أي المعنيين أو المعاني أراد، ولا إجمال في المدلول الوضعي والمدلول التصوري إذ المدلول الوضعي التصوري مدلول ذهني قهري تكويني فبمجرد سماع اللفظ يدخل في الذهن احد معنييه أو معانيه ولا يتصور الاجمال في المدلول التصوري وإنما الاجمال في المدلول التصديقي بحسب ارادة المتكلم العرفي، فالدليل دليل مجمل كما إذا قال ((جاء زيد)) وفرضنا ان زيد مشترك بين ابن خالد وابن عمرو فعندئذ يكون هذا الكلام مجملا ولا ندري ان المتكلم أي من المعنيين أراد هل أراد مجيء بن خالد او بن عمرو؟

الصنف الثاني: هو ان مدلوله متعيّن ومحدد ولا نحتمل الخلاف فيه ويسمى هذا الدليل بالنصّ وبالمحكم في مقابل المشتبه.

الصنف الثالث: ما يكون مدلوله مرددا بين أمرين غير متكافئين بأن يكون ظاهرا في أحدهما دون الاخر فإن احتمال ارادة الآخر ضعيف وموهوم ويسمى هذا الدليل بالدليل الظاهر، فإنه ظاهر في إرادة احدهما دون إرادة الاخر.

ولا اشكال في الصنف الثاني، لأن المدلول متعين ومحدد ولا نحتمل الخلاف فيه.

واما المدلول في الصنف الثالث فهو محل الكلام في أنه مقيد بعدم الظن غير المعتبر على خلافه أو مقيد بإفادة الظن بالوفاق أولا هذا ولا ذاك؟ فمورد الخلاف إنما هو في الصنف الثاني.

واما الصنف الاول وهو المجمل فهو غير مشمول لدليل الحجية، فإن دليل الحجية إنما يشمل ما يترتب عليه اثر عملي، ولا يترتب على المجمل أي أثر عملي، ولهذا لا يكون المجمل مشمولا لدليل الاعتبار الا إذا ارتفع اجماله.

وارتفاع اجماله تارة يكون بقرينة خارجية وان المتكلم نصب قرينة خارجية على انه اراد المعنى الفلاني وأخرى يكون من جهة قرينة داخلية وهي توجب تعيين إرادة أحد المعنيين دون الاخر، فإذا ارتفع الاجمال بالقرينة الخارجية او بالقرينة الداخلية فيكون الدليل المجمل مشمول بدليل الاعتبار، ومن الادلة المجملة الروايات التي وردت في باب الكرّ، فقد ورد في صحيحة محمد بنى مسلم[1] أن حدّ الكرّ (الكرّ بحسب الوزن لا بحسب المساحة) ستمائة رطل، وقد ورد في مرسلة بن ابي عمير[2] أن حدّ الكر ألف ومئتا رطل، والرطل لفظ مجمل مردّد بين الرطل المكّي وبين الرطل العراقي وبين الرطل المدني فإن الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي والرطل المدني ثلثي الرطل المكّي، فإذن صحيحة محمد بن مسلم مجملة من هذه الناحية ولا ندري ما هو المراد من الرطل، وكذلك الحال في مرسلة بن أبي عمير فإنه لا ندري ان المراد من ألف ومئتي رطل الرطل العراقي او الرطل المكّي او الرطل المدني، فكلتا الروايتين مجملة.

وهل يمكن رفع هذا الاجمال او لا يمكن؟

ذكرنا في باب الكرّ في التعليقة طريقة رفع الاجمال عن هاتين الروايتين فإن هاتين الروايتين تدلان على معنى لا اجمال فيه وهو الحدّ الادنى من الكرّ والحدّ الاقصى منه فالحدّ الادنى من الكرّ ستمائة رطل والحد الاقصى منه الف ومئتا رطل وهاتان الروايتان تدلان على كلا الحدين ولا اجمال لهما في ذلك ويمكن شمول دليل الحجية لهما من هذه الناحية، وحيث ان كلا الحدين لا بد ان يكونا متساويين في الخارج ولا يمكن ان يكون أحدهما أكثر من الآخر لأن للكرّ وزن واحد ولا يختلف وزنه فيكون الحد الأدنى متحد مع الحد الأقصى من الكرّ ومساوي له وهذا قرينة على حمل مرسلة بن أبي عمير على الرطل العراقي وأن حد الكر ألف ومئتا رطل بالعراقي وصحيحة محمد بن مسلم على الرطل المكي وحيث ان الرطل المكي ضعف الرطل العراقي فهما متساويان وبذلك هل يمكن رفع الاجمال او لا؟ فيه كلام وتفصيل وقد تعرضنا لذلك التفصيل موسعا في مبحث التعادل والترجيح وسوف يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

واما الكلام في المقام الثاني، وهو أن حجية الظهور هل هي مقيدة بعدم قيام الظن غير المعتبر على خلافها او لا تكون كذلك؟ وعلى الثاني فإذا لم تكن مقيدة بذلك فهل يعتبر في حجيتها افادة الظن بالمطابقة او لا تكون مقيدة بذلك فهي حجة سواء افادت الظن بالوفاق او لا؟

والجواب عن ذلك ان شيء من القيدين غير معتبر في حجية الظواهر لا قيد عدم قيام الظن غير المعتبر على خلافها ولا قيد افادة الظن بالوفاق شيء من القيدين غير معتبر في حجية الظواهر.

والوجه في ذلك هو ان عمدة الدليل على حجية الظواهر السيرة القطعي من العقلاء الجارية على العمل بها الممضاة شرعا ومن الواضح ان سيرة العقلاء قد جرت على العمل بها مطلقا أي سواء كان هناك ظن غير معتبر على خلافها ام لا وسواء افادت الظن بالمطابقة للواقع ام لم تفد، فالسيرة العقلائية قد جرت على العمل بها مطلقا وهذه السيرة ممضاة من قبل الشارع.

ولكن قد يقال كما قيل أن سيرة العقلاء لم تجر على العمل بحجية الظواهر مطلقا، فإن مَن نقل لشخص او تاجر عن اوضاع السوق فما دام لم يحصل الاطمئنان للتاجر لم يعمل بظاهر قوله فلو كان الظاهر حجة مطلقا لعمل به فإنه طالما لم يحصل الاطمئنان من قوله لم يعمل به أو ارسل اليه مكتوبا وبيّن في هذا المكتوب أوضاع السوق من حيث العرض والطلب والاسعار فإذا لم يحصل من ظاهر هذا المكتوب الاطمئنان بالمضمون لم يعمل به، فلا دليل على حجية الظواهر مطلقا ولم تجر سيرة العقلاء على العمل بها مطلقا.

والجواب عن ذلك: قد تقدم الفرق بين باب المولويات الشرعية او العرفية وباب الأغراض التكوينية الخارجية فإن الظواهر إنما تكون حجة بالسيرة القطعية من العقلاء في باب المولويات سواء كان شرعية ام عرفية ولا تكون حجة في باب الأغراض التكوينية الخارجية، والوجه في ذلك ما تقدم من ان المطلوب في باب المولويات تحصيل الحجة وتحصيل الأمن من العقوبة سواء كان عمله مطابقا للواقع ام لم يكن فإن اهتمام المكلف وتمام همّه تحصيل المؤمن من العقاب والحجة سواء كان عمله بالظاهر مطابقا ام لم يكن مطابقا، فإذا كان الظاهر حجة فهو مؤمن من العقاب وإن لم يكن مطابقا للواقع واما في الاغراض التكوينية الخارجية فالمطلوب هو الوصول الى الواقع ولهذا لا يكون الظاهر حجة مطلقا والحجة فيها هو الاطمئنان بالواقع او العلم لأن المطلوب للتاجر هو الإفادة والاستفادة لا أن المطلوب هو إبراء الذمة وتحصيل الأمن من العقوبة.

وتحصيل الواقع لا يمكن الا بالعلم او الاطمئنان فإذا لم يحصل أي منهما فلا يعمل العقلاء بشيء بدون ان يطمئن بتحققه في الخارج، فالظواهر لا تكون حجة ببناء العقلاء وسيرتهم في الاغراض التكوينية الخارجية وفي الفوائد الدنيوية وإنما تكون حجة ببناء العقلاء وسيرتهم الممضاة شرعا في باب المولويات سواء كانت شرعية او كانت عرفية.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص168، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب11مقدار الكر بالأرطال، ح3، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص167، كتاب الطهارة، ابواب الماء المطلق، باب11 مقدار الكر بالأرطال، ح1، ط آل البيت.