آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/12/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: السيرة المتشرعية

الى هنا قد تبين أن سيرة المتشرعة اذا كانت في زمن الأئمة(ع) وفي عصر التشريع فهي بنفسها دليل شرعي على الحكم فلا تتوقف دليليتها على الامضاء والا لزم تحصيل الحاصل فإن دليليتها ثابتة في نفسها فلا يمكن الاستدلال على اثبات دليليتها بدليل آخر فإنه من تحصيل الحاصل.

وأما سيرة المتشرعة المستحدثة في عصر الغيبة لا في عصر التشريع فمنشأ هذه السيرة اما الروايات الواردة في المسألة فنرجع الى الروايات هل تدل على حكم المسألة أي على ما جرت عليه سيرة المتشرعة او لا تدل وهل هي تامة سندا ودلالة وجهة او انها ليست بتامة؟ فإذن لا اثر للسيرة والرجوع اليها فلا بد من الرجوع الى مدركها.

وكذلك سيرة المتشرعة في عصر الغيبة اذا كانت مستندة الى قاعدة كلية كقاعدة اللطف وما شاكل ذلك فلا بد من الرجوع الى تلك القاعدة هل هي تامة او انها غير تامة فلا اثر حينئذ للسيرة.

وأما سيرة المتشرعة اذا لم يكن مدركها معلوما ولا ندري ان منشئها ما هو؟ فإن كانت هذه السيرة بين المتشرعة فبطبيعة الحال نعلم اجمالا ان منشئها بين المتشرعة هو فتاوي العلماء لأن فتاوى العلماء يتوسع العمل بها بالتدريج حتى تصبح سيرة متشرعة وهذه السيرة لا اثر لها فلا يمكن احرازها بين المتقدمين فضلا عن احرازها في زمن الأئمة(ع) ووصولها الينا يدا بيد وطبقة بعد طبقة، فلا طريق لنا الى ذلك وكذلك الحال اذا كانت هذه السيرة بين المتقدمين فهذه السيرة بطبيعة الحال ناشئة من فتاوي العلماء او من حسن الظن او ما شاكل ذلك فلا يمكن اثبات ان هذه السيرة ثابتة في عصر التشريع ووصولها الينا طبقة بعد طبقة فمن اجل ذلك سيرة المتشرعة في عصر الغيبة بين العلماء لا اثر لها ولا يمكن اثبات حجيتها وامضائها شرعا.

فحال السيرة العملية حال الاجماع القولي وقد ذكرنا غير مرة انه لا يمكن الاعتماد على الاجماع في شيء من المسائل الفقهية إذ لا يمكن احراز ان هذا الاجماع ثابت في زمن الأئمة(ع) ووصل الينا يدا بيد وطبقة بعد طبقة.

واما السيرة العقلائية التي تحدد مواقف العقلاء وسلوكياتهم في الخارج اجتماعيا وفرديا ماديا ومعنويا سعة وضيقا فمنشأ هذه السيرة تارة ارتكازها في النفس والذهن وثبوتها في اعماق النفوس وأخرى يكون منشئها الخصوصية المرتكزة الكامنة في متعلقات هذه السيرة، والاول كالسيرة الجارية على حسن أداء الأمانة وعلى حسن الصدق وقبح الكذب وما شاكل ذلك، والثاني فهي ناشئة عن الخصوصية المرتكزة في متعلقاتها كالسيرة الجارية على العمل بأخبار الثقة فإن منشأ هذه السيرة أقربية أخبار الثقة وأقوائية كشفها عن الواقع من أخبار غير الثقة نوعا فهذه الخصوصية المرتكزة هي المنشأ لانعقاد هذه السيرة بين العقلاء، وكذلك الحال بالنسبة الى ظواهر الالفاظ فإن الخصوصية المرتكزة في ظواهر الالفاظ وهي أقربيتها الى الواقع نوعا من ظواهر الافعال وأقوائية كشفها عن الواقع نوعا هي منشأ سيرة العقلاء ومنشأ عمل العقلاء بظواهر الالفاظ في امورهم الاجتماعية والفردية وحياتهم المادية والمعنوية دون ظواهر الافعال.

ولكن كلتا النكتتين الارتكازيتين سبب لحجية هذه السيرة عند العقلاء فإما ان لا تكون هذه السيرة حجة عند الشارع فحجية هذه السيرة لدى الشارع بحاجة الى الامضاء قولا أو فعلا والا فلا تكون حجة شرعا فعندئذ لا شبهة في ان الشارع اذا امضى هذه السيرة قولا او عملا فلا شبهة في حجيتها ولكن هل يكفي في امضاء هذه السيرة عدم صدور ردع من الشارع وسكوته عنها؟

والجواب انه يكفي ذلك للملازمة بين عدم الردع وسكوت المولى وبين الامضاء.

بيان ذلك: أن الشريعة الاسلامية التي جاء بها النبي الأكرم(صلى الله عليه وأله وسلم) متمثلة في عنصرين:

العنصر الاول: العبادات، فإن العبادات أحكام شرعية مجعولة من قبل الشارع تعبدا ولا طريق للعقل الى تلك الأحكام ولا الى مبادئ تلك الأحكام ومصالحها ومفاسدها ولا فرق في هذه الأحكام بين الوجوبات والتحريمات فإنها أحكام تعبدية صرفة ولا طريق لنا الى ملاكاتها ولا طريق للعقلاء الى نفس هذه الأحكام.

وكذلك ليس بإمكان العقلاء الوصول الى هذه الاحكام ولا الى ملاكاتها، والنكتة في ذلك ان هذه الأحكام الشرعية التعبدية علاقة معنوية بين العبد وربه ولا تتأثر هذه العلاقة بتأثر الحياة العامة ولا تتطور بتطورها فإن هذه العلاقة علاقة ثابتة وروحية ومعنوية وهذه الاحكام الشرعية هي تلك العلاقة بين العبد وربه، مثلا الصلاة الموجودة في عصر النبي الأكرم(صلى الله عليه وأله) نفسها الصلاة الموجودة الآن ولا تتأثر بتأثر الحياة ولا تتطور بتطورها لا كما ولا كيفا وكذلك الحال في الصوم والحج .

فإذن نفس هذه الاحكام الشرعية هي العلاقة الروحية بين العبد وربه ولا تتطور بتطور الحياة العامة لا كما ولا كيفا.

بينما علاقة الانسان بالحياة العامة علاقة مادية وهي تتأثر بتأثرها وتتطور بتطورها كما وكيفا فالحياة المادية في عصر النبي الأكرم(صلى الله عليه وأله) تختلف عن الحياة في هذا العصر كما وكيفا.

فالنتيجة أن هذا القسم من الاحكام الشرعية التعبدية أحكام روحية معنوية بين العبد وربه وهذا القسم خارج عن موضوع كلامنا فإنها بنفسها مجعولة من قبل الشارع.

العنصر الثاني: المعاملات وهي أحكام عقلائية بكافة اشكالها ومجعولة لدى العقلاء لحفظ نظامهم وحياتهم الاجتماعية والفردية والمادية والمعنوية والشارع امضى هذا النظام في الجملة فقد ألغى جملة من المعاملات كالربا روحا وشكلا عن الشريعة المقدسة وكذلك بيع الخمور وبيع الميتة ولحم الكلب والخنزير وكذلك القمار وما شاكل ذلك، فإن الشارع الغى هذه المعاملات شكلا وروحا عن الشريعة المقدسة لأن الشارع جاء لتصحيح مواقف العقلاء وسلوكياتهم فإن مواقفهم اذا كانت خاطئة ومخالفة للأغراض الشرعية يقوم الشارع بالردع عنها والغائها روحا وشكلا، واما اذا لم تكن مخالفة للأغراض التشريعية وللمصالح الدينية فيسكت ولم يردع عنها، ومن هنا تكون هذه الملازمة بين السكوت وعدم الردع وبين امضاء الشارع ثابتة، فإذا سكت الشارع في مورد عقلائي ولم يقم بالردع عنه فهو كاشف عن الامضاء لهذا السلوك جزما.