آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/11/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: سيرة العقلاء.

كان كلامنا في أقسام السيرة وأنواعها ومنشئها ويكون الكلام في ذلك في عدة نقاط.

النقطة الأولى: أن منشأ السيرة قد يكون المرتكزات الذهنية الثابتة في أعماق النفس وهذه المرتكزات ناشئة من الاعمال الخارجية، وقد يكون عمل فرد بشيء ولكن يتبعه الآخرون ويستمر على ذلك وتتوسع دائرة ذلك كما وكيفا إلى أن يصبح ذلك من تقاليد المجتمع وعاداته، ومن هنا تختلف تقاليد كل مجتمع عن تقاليد المجتمعات الأخرى وعادات كل بلد عن بلد آخر، مثلا التقاليد الموجودة بين العشائر في العراق تختلف عن التقاليد الموجودة في سائر البلدان وهذه التقاليد مرتكزة في الأذهان وثابتة في اعماق النفوس ولا يرفع اليد عنها بسهولة وهي تحدد مواقف المجتمع وسلوكياته وتحركاته وتعاملاته مع الآخرين فتكون منشأ للسيرة الخارجية والتعاملات والسلوكيات.

وقد يكون منشأ السيرة الخصوصية الكامنة فيما بنى عليه العقلاء وفيما جرت عليه سيرتهم كالظواهر وأخبار الثقة فإن الخصوصية الموجودة في أخبار الثقة منشأ لبناء العقلاء على العمل بها ومنشأ لجريان سيرتهم على العمل بها وكذا الخصوصية الموجودة في ظواهر الالفاظ فإنها منشأ لبناء العقلاء على العمل بها دون ظواهر الافعال وتلك الخصوصية هي أقربية أخبار الثقة الى الواقع وأقوائية كشفها عن الواقع نوعا من أخبار غير الثقة وأقربية وأقوائية ظواهر الالفاظ نوعا الى الواقع من ظواهر الافعال فهذه الاقوائية هي الغاية لبناء العقلاء وهي النكتة لبناء العقلاء على العمل بظواهر الالفاظ دون ظواهر الافعال وهي النكتة في العمل بأخبار الثقات دون غيرها من الاخبار فهذه الخصوصية هي المنشأ لهذه السيرة.

النقطة الثانية: ان السيرة المرتكزة في الاذهان الناشئة من مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية قد تكون منشأ لتكوين ظهور اللفظ لأنها بمثابة القرينة اللبية المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور اللفظ على خلافها والموجبة لانعقاد ظهور اللفظ على وفاقها ومن هذا القبيل السيرة العقلائية الجارية في باب المعاملات على تساوي العوضين في المالية ولا شبهة في هذه السيرة في جميع الاسواق المالية من الاسواق العالمية والاقليمية والجزئية فإن هذه السيرة ثابتة بين جميع المتعاملين بلا فرق بين ان تكون المعاملات نقدية أو مؤجلة كما هو الحال في الاسواق المالية العالمية فإن المعاملات مؤجلة ثمنا ومثمنا لكن التراضي موجود بينهما ولهذا نحكم بصحة هذه المعاملات من جهة وجود التراضي فإنها مشمولة لقوله تعالى ﴿ تجارة عن تراض [1] والا فعنوان المعاملات الخاصة كالبيع والشراء لا يصدق على المعاملات الجرية في الاسواق المالية العالمية.

ولا شبهة في وجود هذا الارتكاز وهو تساوي العوضين في المالية فإن كل من المتعاملين يرفع اليد عن خصوصية ماله لا عن أصل المالية فالبائع يرفع اليد عن خصوصية المبيع لا عن أصل ماليته والمشتري يرفع اليد عن خصوصية ماله وهو الثمن لا عن أصل مالتيه لأن أصل ماليته محفوظة في المبيع كما أن أصل مالية المبيع محفوظة في الثمن والسيرة جارية بين المتعاملين في جميع الاسواق العالمية على التساوي وعدم التفاوت بين العوضين بتفاوت غير مقبول عند العقلاء أي تفاوت فاحش وأما إذا كان التفاوت ضئيلا ولا يعتني به العقلاء فلا أثر له فالتفاوت بين العوضين إذا كان فاحشا وغير مقبول فالمغبون لا يرض بهذه المعاملة ولا يمضها لأن إمضائه بحسب الارتكاز الذهني مشروط بالتساوي فإذا لم يكن متساويا فلا يمضي هذه المعاملة ومن هنا الشرط الضمني موجود في كل معاملة فإن كل من المتعاملين يشترط على الاخر ارتكازا وضمنا التساوي في المالية بأن لا يكون مغبونا ولا يكون التفاوت فاحشا وغير مقبول عند العقلاء فإن كان التفاوت فاحشا ثبت الخيار له ومنشأ هذا الخيار هو تخلف الشرط الضمني الارتكازي بين المتعاملين فتخلفه يوجب الخيار للمغبون سواء كان المغبون بائعا او مشتريا او غيرهما وهذه السيرة ناشئة من هذه المرتكزات الذهنية وهذه السيرة جارية بين الناس وبين المتعاملين على طبق هذه المرتكزات الذهنية في جميع الاسواق وحسب مؤشرات السوق وقانون العرض والطلب.

فإذن هذه السيرة موجودة ومنشئها مناسبة الحكم والموضوع.

الجهة الثالثة: ان السيرة قد تكون على الحكم الشرعي المحض وهذه السيرة سيرة متشرعية صرفة وليست بعقلائية ومنشئها ليس الارتكاز العرفي العقلائي بل منشئها الحكم الشرعي فإن هذه السيرة كسائر الأدلة الشرعية حجة ولكن حجيتها في زماننا منوطة بوصول هذه السيرة إلينا فإذا وصلت الينا يدا بيد وطبقة بعد الطبقة فهي حجة وأما وصولها من جهة ان هذه السيرة موافقة للقاعدة المسلمة او وصولها من جهة حسن الظن فلا يمكن الاعتماد على هذا الوصول وإن ذهب اليه جماعة ولهذا لا فرق بين هذه السيرة المتشرعية وبين الاجماع القولي فإن هذه السيرة المتشرعية اجماع عملي ولا فرق بين الاجماع العملي والاجماع القولي ولا بد من وصولها الينا يدا بيد وطبقة بعد طبقة حتى يحكم بحجيتها والا فلا يمكن الحكم بحجيتها كما هو الحال في الاجماع القولي، وقد تكون سيرة المتشرعة هي سيرة العقلاء فإن سيرة العقلاء إذا امضاها الشارع فهي سيرة متشرعية فهي تتصف بسيرة المتشرعة بعد امضاء الشارع واعتراف الشارع بها فإن المتشرعة في زمن النبي الأكرم(صلى الله عليه وأله وسلم) والائمة الاطهار يعملون بهذه السيرة بما انها ممضاة شرعا لا بما انها سيرة العقلاء والا فسيرة العقلاء بدون الامضاء لا قيمة لها ولا اثر لها بل يعملون بهذه السيرة بما انها ممضاة شرعا فهي سيرة متشرعة باعتبار امضاء الشارع لها.

وعلى هذا فالمتشرعة يعملون بالسيرة العقلائية بما انها تصبح سيرة متشرعة بالإمضاء لا بما انها سيرة العقلاء.

بقي هنا شيء وهو ان عمل العقلاء بشيء لا يمكن ان يكون جزافا إذ الفعل إذا صدر من عاقل ملتفت لا يمكن ان يكون بلا هدف وبلا غاية والا لكان هذا الفعل لغوا وصدور اللغو من العاقل لا يمكن فالفعل اذا صدر من شخص عاقل ملتفت فلا محالة يكون صدوره بهدف وغاية وهذه الغاية تحركه نحو الاتيان بهذا الفعل وتدعوه الى الاتيان به.

فالعقلاء بما هم عقلاء لا يعملون بشيء جزافا وتعبدا فلا محالة يعملون بشيء بغاية وهذه الغاية تحرك العقلاء نحو هذا الفعل وتدعوهم اليه فإن التعبد إنما يتصور في الاحكام الشرعية فإن العمل بالأحكام الشرعية إنما هو بالتعبد علم غايته او لم يعلم وعلم ملاكه او لم يعلم، فالتعبد انما هو في احكام الموالي للعبيد فعلى العبيد ان يعملوا بأحكام الموالي تعبدا فالتعبد إنما يتصور في الاحكام الشرعية ولا يتصور في أحكام العقلاء فلا يمكن ان يعمل عاقل بشيء جزافا فلا محالة يكون العمل الصادر من العاقل الملتفت له هدف وغاية والا فمعناه ان هذا الفعل صدر منه لغوا وهو فعل غير عقلائي.

هذا كله في منشأ سيرة العقلاء، وبعد ذلك يقع الكلام في إمضاء هذه السيرة فهل يمكن امضائها او لا يمكن


[1] النساء/السورة4، الآية29.