آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/11/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصل عند الشك في حجية أمارة

تحصل مما ذكرنا أن ما ذكره المحقق النائيني(قده) من أن حكومة الأمارات المعتبرة على العمومات الناهية من الآيات والروايات إنما هو بملاك حجيتها بوجودها الواقعي، وعلى هذا بنى على أنه إذا شك في حجية أمارة فهو شك في موضوع هذه العمومات وإذا كان الشك في الموضوع فلا يجوز التمسك بها، لأنه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وقد أورد عليه السيد الاستاذ تارة بالحل، بأن حكومة هذه الأمارات المعتبرة على هذه العمومات إنما هو بملاك وجودها العلمي الواصل الى المكلف لا بوجودها الواقعي، فإذا شك في حجية أمارة فليس الشك في الموضوع حتى يكون التمسك بهذه العمومات من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية - على تفصيل تقدم-.

وتارة بالنقض بأدلة الأصول العملية كأصالة البراءة والطهارة ونحوهما، فإن موضوعها مقيد بعدم العلم بالحكم الواقعي، وعلى هذا إذا شك في حجية أمارة فعلى القول بأن الحجية بمعنى الطريقية والعلم التعبدي فيكون الشك في موضوع أدلة الأصول العملية، لأن الشك في حجية الأمارة يكون شكا في أنها علم بالواقع أو أنها ليس بعلم بالواقع وموضوع هذه الأدلة مقيد بعدم العلم بالواقع، وهذا شك في موضوع هذه الأدلة وعلى هذا فلا يمكن التمسك بهذه الأدلة في موارد الشك في حجية أمارة، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويمكن الجواب عن ذلك بأمرين:

الأمر الأول: ما ذكرناه من أنه لا فرق بين الحكومة والتخصيص في مقام الثبوت، فكما ان التخصيص تقييد في موضوع العام كذلك الحكومة تقييد في موضوع العام ولا فرق بينهما من هذه الناحية، فإذ قال المولى ((أكرم العلماء)) ثم قال ((لا تكرم الفساق منهم)) فدليل المخصص يوجب تقييد موضوع العام وهو العالم المقيد بعدم كونه فاسقا، وكذلك الحال في دليل الحاكم في مثل ((لا ربا بين الوالد والولد)) فإنه في مقام الثبوت يقيد موضوع أدلة الربا بعدم الربا بين الوالد والولد، فإذن لا فرق بين الحكومة والتخصيص في مقام الثبوت فكلاهما مقيد لموضوع العام غاية الأمر أن دليل المخصص مقيد لموضوع العام بعدم عنوان المخصص، ودليل الحاكم مقيد لموضوع العام بعدم عنوان دليل الحاكم وإلا فكلاهما مقيد لموضوع دليل العام وينفي الحكم عن موضوع العام، والفرق بينهما إنما هو في مقام الإثبات، فإن دليل المخصص ينفي حكم العام عن موضوعه مباشرة، وأما دليل الحاكم فينفي حكم العام عن موضوعه بلسان نفي الموضوع، وهذا اللسان لسان شرعي تعبدي واعتباري ولا واقع موضوعي له في الخارج ولا يؤثر في الواقع ولا يوجب انقلاب الواقع في الخارج ولا يجعل ما ليس بعلم علما، فموضوع الأصول العملية وهو عدم العلم بالواقع موجود وجدانا عند الشك في حجية أمارة، والشك إنما هو في حكم هذا الموضوع فلا مانع من التمسك بعموم أدلة الأصول العملية.

الأمر الثاني: أنا لو فرضنا أنه لا يمكن التمسك بأدلة الأصول العلمية ولكن لا مانع من التمسك ببدلها وهو دليل الاستصحاب الموضوعي في المقام، فإنا إذا شككنا في حجية أمارة وعدم حجيتها فلا مانع من استصحاب عدم حجيتها وهذا الاستصحاب يثبت عدم حجية هذه الأمارة وأنها ليست بحجة ومؤمنة من العقوبة ولا أثر لها.

فإذن إذا لم يمكن التمسك بأدلة الأصول العلمية غير المحرزة فلا مانع من التمسك بأدلة الاستصحاب الموضوعي في المقام وهو استصحاب عدم الحجية.

هذا تمام كلامنا في الوجه الثاني وهو المسك بالآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن.

الوجه الثالث: التمسك بأدلة حرمة التشريع كقوله تعالى ﴿ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [1] والروايات التي تدل على أن أدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين فهو تشريع محرم، فإذا لم يعلم المكلف بوجوب شيء ومع ذلك يقول بوجوبه فهو تشريع محرم، ولهذا قد ورد في الروايات ((أن القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة))[2] .

فالتشريع عبارة عن أدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين كما لو قال بوجوب شيء أو حرمته وهو لا يعلم بوجوبه أو حرمته في الدين فهذا تشريع ومحرم ومستحق فاعله للعقاب.

فأدلة التشريع تشمل بعمومها وإطلاقها موارد الشك في الحجية، فإن الخارج من هذه الأدلة الأمارات المعتبرة التي ثبتت حجيتها لأن العمل بها ليس تشريعا ومحرما وأما الأمارات المشكوكة الحجية فلا يعلم خروجها عن هذه الأدلة لأنا نشك في خروجها عن هذه الأدلة وعدم خروجها فعندئذ لا مانع من التمسك بعموم هذه الأدلة، وهذا ليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن موضوع هذه الأدلة عدم العلم بالواقع وعدم العلم بأنه من الدين والافتراء وهو محرز بالوجدان فالشك إنما هو في الحكم وهو حرمة العمل به فلا مانع من التمسك بعموم هذه الأدلة لإثبات حرمة العمل بالأمارة المشكوكة تشريعا.

ثم ان الفرق بين هذا الوجه والوجه السابق هو أن هذا الوجه يمتاز عن الوجه السابق بالموضوع والمحمول معا، فإن موضوع هذا الوجه هو الافتراء على الله وإدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين وهو موضوع أدلة حرمة التشريع وأما موضوع الأدلة في الوجه السابق فهو الظن أي الأمارات الظنية، وأما من حيث الحكم والمحمول فإن الحكم في هذه الأدلة حرمة التشريع تكليفا أي حرمة إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين تكليفا واما مفاد الأدلة في الوجه السابق الارشاد الى عدم حجية الظن، فهذا الوجه يمتاز عن الوجه السابق في الموضوع والحكم.

ثم أن هذا الوجه إنما يمكن الاستدلال به على عدم حجية الأمارات التي لم تثبت حجيتها بملاك الملازمة بين حرمة اسناد مؤداها الى الشارع وبين عدم الحجية، لأنه إذا حرم اسناد مؤداها الى الشارع فهو يستلزم أنها ليس بحجة وأما إذا كانت حجة فيجوز اسناد مؤداها الى الشارع، فالملازمة في كلا الطرفين موجودة.

ولكن قد يقال كما قيل: إن هذه الملازمة ليست من آثار حجية الأمارة أو عدم حجيتها، فإن من آثار حجية أمارة التنجيز والتعذير لأن الأمارة إن كانت مطابقة للواقع فهي منجزة للواقع وإن لم تكن مطابقة للواقع فهي معذرة، فالتعذير والتنجيز من آثار الحجية وأما اسناد مؤداها فهو من آثار ثبوت الواقع حقيقة لا من آثار حجية الأمارة وإن لم تكن مطابقة للواقع، ومن الواضح أن حجية الأمارة لا تثبت الواقع حتى على القول بأن الحجية بمعنى الطريقية والعلم التعبدي لأن هذا العلم اعتباري ولا وجود له الا في عالم الاعتبار ولا أثر له في عالم الواقع والخارج ولا يجعل ما ليس بعلم علما لاستحالة تكوين شيء بالاعتبار خارجا.

فإذن حجية الأمارة سواء أ كانت بمعنى الطريقية والعلم التعبدي أم كانت بمعنى المنجزية والمعذرية أم كانت بمعنى التنزيل وجعل الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي في صورة المطابقة والمخالف له في صورة عدم المطابقة فعلى جميع التقادير والأقوال في المسألة الحجية لا تثبت الواقع، فإذن لا يمكن اسناد مؤداها الى الشارع فإن اسناد المؤدى من آثار ثبوت الواقع لا من أثار حجية الأمارة.

والجواب عن هذا القيل واضح، فإن الأمارة إذا كانت حجة تثبت مؤدياتها فإن معنى حجية الأمارة ثبوت مؤداها وثبوت مدلولها شرعا ومع ثبوت مؤداها شرعا فكيف لا يصح اسناد مؤداها الى الشارع؟ فهذا تناقض وتهافت، فإن الشارع حكم بثبوت مدلول هذه الأمارة ومؤداها فكيف لا يصح اسنادها اليه؟ ومعنى حجية الأمارة على جميع الأقوال ثبوت مدلولها شرعا فإذا ثبت مؤداها ومدلولها شرعا فكيف لا يصح اسنادها الى الشارع؟

ولهذا ما ذكر من الاشكال لا يرجع الى معنى محصل.

ومن هنا لا شبهة في صحة إسناد الأحكام الاجتهادية، لأنها وليدة أفكار المجتهدين غاية الأمر أنها ذات طابع إسلامي شرعي ومن أجل ذلك يصح إسنادها الى الشارع، وكذلك الحال في المقام فإن الأمارة إذا كانت حجة فيثبت مؤداها شرعا ومعه يصح اسناده الى الشارع، وإذا لم تثبت حجيتها لم يثبت مؤداها شرعا وعندئذ لا يصح اسناد مؤداها الى الشارع وهذا واضح.


[1] يونس/السورة10، الآية59.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج27، ص22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب4، ح6، ط آل البيت.