الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/06/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: حجية الظن
أما الكلام في المقام الثالث فيقع في المحاذير التي قيل بأن جعل الحجية للأمارات الظنية يستلزمها، وهذه المحاذير متمثلة في أمورٍ:
الأول: أنه يلزم من جعل الحجية للأمارات الظنية اجتماع الضدين أو المثلين أما قطعا او احتمالا فكما ان القطع باجتماع الضدين مستحيل كذلك احتماله مستحيل للقطع بعدم اجتماع الضدين في الخارج وكذلك الحال في اجتماع المثلين فإذا قامت الامارة على وجوب  شيء وفرض انها حجة فإن كانت مطابقة للواقع لزم اجتماع المثلين بين الوجوب الظاهري والوجوب الواقعي في مرحلة الجعل واجتماع المصلحتين في مرحلة المبادي وإن كانت مخالفة للواقع وكان حراما لزم اجتماع الضدين فإن الوجوب الظاهري لا يجتمع مع الحرمة الواقعية في شيء واحد وهو مستحيل للزوم اجتماع الضدين في مرحلة الجعل واجتماع  المصلحة والمفسدة في مرحلة المبادي واجتماع الإرادة والكراهة في مرحلة المبادي كل ذلك مستحيل فمن اجل ذلك لا يمكن جعل الحجية للأمارات الظنية باعتبار ان جعل الحجية لها يستلزم محذور اجتماع الضدين تارة واجتماع المثلين تارة أخرى وكلاهما مستحيل.
الثاني: أن جعل الحجية للأمارات الظنية يستلزم إلقاء العبد في المفسدة الملزمة او تفويت المصلحة الملزمة عنه فإن الأمارة اذا قامت على وجوب شيء وفرض انها حجة وكان الشيء في الواقع حراما لزم إلقاء العبد في المفسدة الملزمة وهو قبيح بحكم العقل العملي أو قامت الامارة على حرمة شيء وكان في الواقع واجبا لزم منه تفويت المصلحة الملزمة عنه وهو قبيح من الشارع المقدس فإن جعل الحكم الشرعي لأجل ابعاد العبد عن المفاسد الملزمة حتى يستفيد من المصالح الملزمة فإلقاء العبد في المفسدة الملزمة قبيح بحكم العقل كما ان اجتماع الضدين او المثلين محال بحكم العقل النظري فتفويت المصلحة الملزمة او القاء العبد في المفسدة الملزمة قبيح بحكم العقل العملي.
الثالث: أن جعل الحجية للأمارات الظنية نقض لغرض التشريع فإن غرض المولى من وراء جعل الاحكام الشرعية هو امتثالها بما لها من المبادئ والملاكات والاغراض الشرعية والحفاظ عليها وعدم تفويتها.
وعلى هذا فإن كانت الامارات الظنية حجة فقد تفوت تلك المبادئ والمصالح والاغراض التشريعية فإذا فرض ان الامارة قامت على وجوب شيء وكانت في الواقع محرمة فإنها توجب نقض غرض التشريع للشارع وكذلك اذا كان الشيء في الواقع واجبا وقامت الامارة على حرمته فإنه يوجب تفويت المصلحة الملزمة وهذا نقض للغرض التشريعي من الشارع.
فإذاً جعل الحجية للأمارات الظنية قد توجب نقض الغرض التشريعي من الشارع وهذا لا يجوّز جعل الحجية للأمارات الظنية.
وقد أجيب عن هذه الاشكالات بوجوه:
الوجه الاول: ما ذكره المحقق الخرساني(قد)[1] وحاصل ما ذكره أن هذه الاشكالات جميعا مبنية على ان يكون المراد من الحجية جعل الاحكام التكليفية الظاهرية لمؤديات الامارات فيلزم حينئذ هذا المحذور أي محذور اجتماع المثلين تارة واجتماع الضدين تارة أخرى أو محذور القاء العبد في المفسدة الملزمة تارة واخرى تفويت المصلحة الملزمة عنه او نقض الغرض التشريعي في بعض الموارد فإذاً هذه الاشكالات جميعا مبنية على ان يكون المراد من جعل الحجية جعل الاحكام الظاهرية في مؤديات الامارات.
ولكن الامر ليس كذلك فإن المراد من جعل الحجية للأمارات الظنية جعل المنجزية والمعذرية فالأمارة بعد جعل الحجية لها بالسيرة القطعية من العقلاء او بالآيات والروايات اذا كانت مطابقة للواقع فهي منجزة له فاذا قامت على حرمة شرب التتن مثلا وكانت مطابقة للواقع فهي منجزة له وإن كانت مخالفة للواقع فهي معذرة عنه كما اذا قامت الامارة على اباحة شيء وكان في الواقع واجبا فإنها وإن استلزمت ترك الواجب الا ان المكلف معذور بواسطة هذه الامارة عن مخالفة الواقع فإذاً معنى الحجية هو المنجزية والمعذرية.
هكذا ذكره صاحب الكفاية(قد).
وللمناقشة فيه مجال واسع:
أولاً: سوف يأتي أن معنى الحجية ليس المنجزية والمعذرية فإن المنجزية والمعذرية أمران منتزعان بعد جعل الحجية للأمارات فإذا فرضنا أن الدليل على حجية الامارات السيرة القطعية من العقلاء فإن السيرة اذا كانت ممضاة من الشارع فهي حجة وتدل على حجية الامارات الظنية والامارة بعد اتصافها بالحجية تكون منجزة فتنجزها في طول اتصاف الامارة بالحجية لا ان المنجزية هي نفس الحجية فإذا كانت الامارة حجة فهي منجّزة ومعذّرة فالتنجّز والتعذّر وصفان منتزعان بحكم العقل بعد اتصاف الامارة بالحجية وليس معنى الحجية المنجّزية والمعذّرية.
وثانياً: مع الاغماض عن ذلك وتسليم ان معنى الحجية هو المنجّزية والمعذّرية إلا ان من الواضح ان جعل الحجية للأمارات لا يمكن ان يكون جزافا وبدون ملاك فانه غير معقول صدوره من المولى الحكيم أي جَعْلُ الحجية للأمارات الظنية بسعتها كما وكيفا لا يمكن ان يكون جزافا وبدون مبرر فإنه مستحيل صدوره من المولى وعلى هذا فجعل الحجية للأمارات إن كان ناشئاً من الملاكات والمبادئ الأخرى  غير الملاكات والمبادئ الواقعية لئلا تجتمعان في شيءٍ واحدٍ فإن الملاكات والمبدئ في الامارات الظنية قائمة بنفسها وأما الملاكات والمبادئ للأحكام الواقعية فهي قائمة بمتعلقاتها فلا يلزم اجتماع المصلحة مع المفسدة في شيءٍ واحد واجتماع الكراهة والارادة والحب والبغض في شيء واحد لا يلزم أي محذور.
وأما اذا كان جعل الحجية للأمارات الظنية ناشئاً من الملاكات القائمة في مؤدياتها فيلزم محذور اجتماع الضدين تارة واجتماع المثلين تارة أخرى فإن مؤديات الامارات مشتملة على الملاكات والمبادئ للأحكام الواقعية أيضا فإذا كانت فيها المبادئ والملاكات لجعل الحجية لزم اجتماع المصلحة والمفسدة تارة واجتماع المثلين تارة اخرى وهذا مستحيل ولا فرق في ذلك بين ان يكون مدلول الامارة حكما إلزاميا او حكما ترخيصيا فعلى كلا التقديرين يلزم محذور اجتماع الضدين فكما ان المصلحة الملزمة لا تجتمع مع المفسدة الملزمة في شيء واحد كذلك المصلحة المرخصة لا تجتمع مع المفسدة الملزمة في شيء واحد، هذا مضافا الى ان الاحكام الظاهرية احكام طريقية لا تكون ناشئة عن المبادي والملاكات في مؤدياتها غير المبادئ والملاكات للأحكام الواقعية فإن الاحكام الظاهرية احكام طريقية ناشئة من نفس الملاكات للأحكام الواقعية فإن اهتمام الشارع بالحفاظ على الملاكات الواقعية حتى في موارد الشك فيها وموارد الاشتباه والالتباس يكون داعيا لجعل الاحكام الظاهرية الطريقية للحفاظ على الاحكام الواقعية بما لها من الملاكات والمبادئ حتى في موارد الشك والاشتباه والالتباس فإذاً لا يلزم أي محذور في البين فإنه ليس للأحكام الظاهرية ملاكات ومبادئ أخرى في المؤديات حتى يلزم اجتماع الضدين تارة واجتماع المثلين تارة اخرى بل لكلا الحكمين ملاك واحد وهو ملاك الحكم الواقعي فهو كما يقتضي جعل الحكم الواقعي فكذلك اهتمام المولى بالحفاظ عليه يقتضي جعل الحكم الظاهري للحفاظ على الحكم الواقعي بما له من ملاك.


[1]  كفاية الاصول، المحقق الآخوند الخراساني، ص277.