الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/05/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: وجوب الموافقة القطعية العملية
ذكرنا أنه على مسلك السيد الاستاذ(قد) لا مانع من جريان الاصول المؤمنة العقلية لأن الاصول العملية العقلية أصول قطعية ثابتة في الواقع وتابعة لثبوت ملاكها وموضوعها في الواقع، فلا مانع من التمسك بقاعدة التأمين في كل طرف من أطراف العلم الاجمالي لأن موضوع هذه القاعدة محرز في كل طرف من أطراف العلم الاجمالي وجدانا، ولكن ذكرنا أن الجمع بين التمسك بهذه القاعدة وبين  عليّة العلم الاجمالي لتنجيز حرمة المخالفة القطعية العملية على مسلكه(قد)  غير ممكن، هذا كله بالنسبة الى الاصول المؤمنة العقلية.
وأما الاصول المؤمنة الشرعية كأصالة البراءة الشرعية ونحوها فإن هذه الاصول ليست قطعية ولا مانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي ولكن يرد على ذلك:
أولا: أنه لا حاجة الى إجراء هذه الاصول على مسلكه(قد)، إذ أنه يرى أن هذه الاصول العملية تجري في أطراف العلم الاجمالي ولكنها تسقط من جهة المعارضة وجريان بعضها في بعض أطراف العلم الاجمالي دون البعض الاخر ترجيح من غير مرجح فلا يمكن، فمن أجل ذلك تسقط هذه الاصول في أطراف العلم الاجمالي، فلا محالة يكون المرجع هو الاصول العملية العقلية كقاعدة التأمين فلا حاجة الى إجراء الاصول العلمية الشرعية حتى نحتاج الى هذه المقدمات بل من الاول نقول لا حاجة الى إجرائها بعد إجراء قاعدة التأمين.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك فإنه يمكن القول إن جريان الاصول العملية الشرعية في أطراف العلم الاجمالي وتساقطها بالمعارضة متوقف على مقدمتين:
المقدمة الاولى: مبنية على مسلك السيد الاستاذ(قد) وكذا غيره من أن متعلق العلم الاجمالي التكليف المتعلق بالجامع وهو معلوم لنا وجدانا وواصل الينا كذلك وخارج عن موضوع قاعدة التأمين وجدانا، وأما  تعلقه بكل واحد من فرديه أو افراده في الخارج فهو مجهول ومورد لقاعدة التأمين لأن موضوع القاعدة محرز في كل واحد من فرديه أو أفراده بحده الفردي بالوجدان.
المقدمة الثانية: أن يكون لأدلة الاصول العملية الشرعية إطلاق وبإطلاقها تشمل أطراف العلم  الاجمالي كأصالة البراءة الشرعية أو أصالة الطهارة ونحوهما أن يكون لدليلها إطلاق وبإطلاقها تشمل جميع الشبهات أعم من الشبهات البدوية والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.
فإذا كان لأدلة الاصول العلمية إطلاق وبهذا الاطلاق تشمل أطراف العلم الاجمالي فعندئذ لا مانع من جريان أصالة البراءة          
ولكن كلتا المقدمتين غير تامة.
أما المقدمة الاولى فقد تقدم أن العلم الاجمالي تعلق بالتكليف المتعلق بالجامع العنواني الاختراعي الذي أخترعه العقل للإشارة الى واقع هذا الجامع بإشارة ترددية، فإن التكليف متعلق بواقع هذا الجامع لا بهذا الجامع في وعاء الذهن إذا هو في وعاء الذهن مجرد مفهوم ومرآة ومشير الى ما هو متعلق التكليف واقعا وما هو مشتمل على الملاك وأما هذا المفهوم الاختراعي الانتزاعي في وعاء الذهن فهو مجرد مفهوم ولا واقعية له ولا موضوعية، وأما التكليف المتعلق بهذا الجامع في وعاء الذهن فهو مفهوم التكليف لا واقع التكليف أو قل صورة التكليف في الذهن وواقع التكليف حقيقة وروحا متعلق بهذا الجامع بالحمل الشائع الصناعي في الخارج وأما متعلق التكليف في وعاء الذهن فهو المفهوم المشير الى الواقع والمتعلق به صورة التكليف لا واقع التكليف والتنجّز المتعلق بهذا التكليف ليس واقع التنجّز بل مفهوم التنجّز في وعاء الذهن ولا أثر له والأثر إنما هو مترتب على واقع التنجّز فإن واقع التنجّز عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة.
فإذاً هذه المقدمة غير تامة.
وإذا لم تتم هذه المقدمة فمتعلق التكليف الواقع أي خصوصية الفرد مأخوذة في متعلق التكليف والمكلف يعلم باشتغال ذمته بهذه الخصوصية فيكون المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا قاعدة البراءة لأن هذه الخصوصية مرددة بين خصوصية هذا الفرد أو ذاك الفرد، فإذا أتى بأحد الفردين لا يحصل له العلم بفراغ ذمته لاحتمال أن ذمته مشغولة بخصوصية الفرد الأخر والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وعندئذ لا تجري البراءة في أطراف العلم الاجمالي بل تجري أصالة الاشتغال في أطرافه.
وأما المقدمة الثانية، فالظاهر بحسب المتفاهم العرفي أن أدلة الاصول العملية الشرعية كأدلة أصالة البراءة أو أدلة أصالة الطهارة منصرفة عن الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ومختصة بالشبهات البدوية لأن منشأ هذا الارتكاز في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي هو العلم بالتكليف والعلم بغرض المولى، فإذا كان هنا علم بالتكليف اللزومي وبالغرض اللزومي فلا محالة يعلم أن المولى أهتم به ولا يجوّز تفويته فمن أجل ذلك تكون الاصول العملية الشرعية منصرفة عن أطراف العلم الاجمالي فإنها شبهات مقرونة بالعلم بالتكليف اللزومي وبالغرض اللزومي الذي لا يجوز تفويته بنظر الشرع وعند المولى وهذا هو منشأ انصرف هذه الادلة عن أطراف العلم الاجمالي، وعليه فالمقتضي قاصر، فأدلة الاصول العملية الشرعية لا تشمل أطراف العلم الاجمالي وبالتالي لا معنى  للبحث عن وقوع المعارضة بينها أو عدم وقوعها بعد عدم شمولها لأطراف العلم الاجمالي وكذلك لا معنى للبحث عن كون العلم الاجمالي مانعا عن جريانها بنحو العلة التامة أو بنحو الاقتضاء، فإن هذه الادلة في نفسها قاصرة عن الشمول لأطراف العلم الاجمالي.
هذا كله في المقام الاول وهو أن العلم الاجمالي هل يكون تنجيزه لحرمة المخالفة القطعية العلمية بنحو الاقتضاء أو بنحو العلة التامة؟ وقد تقدم أن الصحيح أنه بنحو الاقتضاء وليس بنحو العلة التامة وإن كان القول بالعليّة هو المشهور بين الاصوليين.
أمّا الكلام في المقام الثاني
وهو أن العلم الاجمالي هل يكون تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية العملية بنحو الاقتضاء أو يكون بنحو العلة التامة؟
وهذا البحث إنما يكون له مجال على القول المشهور بين الاصوليين وهو علية العلم الاجمالي لتنجيز حرمة المخالفة القطعية العملية، فلو كنّا قائلين بأن العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية العملية فعندئذ يكون لبحث تنجيز العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية العلمية على نحو العلية أو على نحو الاقتضاء وجه، وأما على المسلكين الآخرين في المسألة كما في مسلك من يقول أن العلم الاجمالي لا يكون علة تامة لحرمة المخالفة القطعية العلمية بل هو بنحو الاقتضاء وقد تقدم أن هذا القول هو الصحيح أو كما في المسلك الثاني الذي ذهب اليه السيد الاستاذ(قد) من أن العلم الاجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية العملية مباشرة حتى نفحص أنه بنحو الاقتضاء أو بنحو العلة التامة، على هذين المسلكين لا معنى للبحث عن تنجيز العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية العملية، وأما بالنسبة الى قول المشهور من الاصوليين من أن العلم الاجمالي علة تامة لتنجيز حرمة المخالفة القطعية العملية فيكون هناك معنى لهذا البحث إذ معنى أن العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية عدم أمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي لأنه خلف فرض أنه علة تامة للتنجيز، وعلى هذا يتأتى القول بأن العلم الاجمالي كما أنه علة تامة لتنجيز حرمة المخالفة القطعية العملية كذلك هو علة تامة لوجوب بالموافقة القطعية العملية بمعنى أنه لا يمكن جعل الترخيص في أطرافه لأنه خلف فرض أنه علة تامة ولهذا لا تنافي بينهما.