الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: وجوب الموافقة القطعية
أما القول الثاني وهو أن العلم الاجمالي لا يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعية العملية مباشرة، بل يتوقف تنجيزه على تساقط الأصول المؤمنة في أطرافه بالمعارضة وعدم جريان بعضها دون بعضها الأخر ترجيح من غير مرجح، وقد أختار هذا القول السيد الاستاذ(قد) وقد أفاد في تقريب هذا الوجه:
أن متعلق العلم الاجمالي هو الجامع فإن العلم تعلق بالتكليف المتعلق بالجامع بحده الجامعي وهو عنوان أحدها أو أحدهما، فتعلق التكليف بالجامع معلوم وجدانا وهو واصل الى المكلف كذلك وخارج عن موضوع قاعدة التأمين ووارد على هذه القاعدة، لأن موضوع القاعدة عدم البيان والعلم الاجمالي بالتكليف المتعلق بالجامع بيان وجدانا فلا موضوع للقاعدة بالنسبة الى متعلق العلم الاجمالي فان العلم الاجمالي تعلق بالتكليف المتعلق بالجامع وهوه معلوم وجدانا وواصل، وأما خصوصية كون هذا التكليف متعلقا بالفرد بحده الفردي فهي مجهولة للمكلف، فإذا علم بنجاسة أحد الاناءين أحدهما شرقي والاخر غربي فالمعلوم بالوجدان هو العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما، أما خصوصية كون النجاسة متعلقة بالإناء الشرقي بحده الخاص أو بالإناء الغربي كذلك فهي مجهولة ولا يدري أن هذه النجاسة متعلقة بالإناء الشرقي أو متعلقة بالإناء الغربي، وكذلك الحال في الشبهات الحكمية، فإذا علم اجمالا بوجوب إحدى الصلاتين في يوم الجمعة فان وجوب احداهما معلوم للمكلف وواصل اليه وجدانا وخارج عن موضوع قاعدة التأمين، وأما تعلقه بخصوص صلاة الظهر بعنوانها الخاص وباسمها المخصوص فهو مجهول وكذلك تعلقه بصلاة الجمعة بعنوانها الخاص وباسمها المخصوص مجهول.
ونتيجة ذلك أنه يجب على المكلف الإتيان بالجامع، ومن الواضح أنه يكفي في الإتيان بالجامع إيجاده في ضمن أحد فرديه أو احد أفراده، لأن الجامع يوجد في ضمن أحد فرديه أو افراده، هذا هو الواجب.
فإذاً الواجب عليه بمقتضى العلم الاجمالي هو إيجاد الجامع في الخارج وإيجاد الجامع إنما هو بإيجاد أحد فرديه دون كلا الفردين أو جميع الافراد.
فالنتيجة أن منشأ التعارض بين الاصول المؤمنة في أطراف العلم الاجمالي أمران:
أحدهما: أن العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية العملية إذا لا يمكن جعل الاصول العملية المؤمنة المرخصة في جميع اطراف العلم الاجمالي لأنه يؤدي الى الترخيص في القطع بالمخالفة القطعية العملية وهو لا يمكن، فإن العلم الاجمالي من هذه الناحية علة تامة للتنجيز بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية العملية.
الثاني: أن جريان الاصول العملية المؤمنة في بعض الاطراف دون بعضها الاخر ترجيح من غير مرجح، لأن نسبتها الى جميع الاطراف نسبة واحدة فالحكم بأنها تجري في بعض الاطراف دون بعضها الاخر ترجيح من غير مرجح، فمن أجل ذلك تقع المعارضة بين الاصول المؤمنة في جميع أطرافه، فيسقط الجميع من جهة المعارضة فلا يبقى في كل طرف من اطراف العلم الاجمالي الا احتمال التكليف احتمال نجاسة الاناء الشرقي واحتمال نجاسة الاناء الغربي، بعد سقوط إصالة الطهارة في كلا الإناءين من جهة المعارضة أو بعد سقوط إصالة البراءة في كلتا الصلاتين من جهة المعارضة فلا يبقى الا احتمال وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة او احتمال وجوب صلاة الجمعة في يومها.
وهذا الاحتمال مساوق للتنجز، فان احتمال التكليف مساوق للتنجز طالما لم يكن هنا أصل مؤمن في البين،كما في الشبهات الحكمية قبل الفحص فان احتمال التكليف مساوق لتنجزه ووجوب الاحتياط باعتبار ان الاصول المؤمنة قبل الفحص لا تجري في الشبهات الحكمية قبل الفحص، وفي المقام كذلك فإن الاصول المؤمنة قد سقطت من جهة لمعارضة فليس هنا أصل مؤمن، فإذاً احتمال التكليف في كل طرف من اطراف العلم الاجمالي مساوق لتنجزه فالمرجع هو قاعدة الاشتغال، وحيث ان هذا الاحتمال مستند في نهاية المطاف الى العلم الاجمالي، فإن الاحتمالات في اطراف العلم الاجمالي احتمالات مترابطة، فهذا الاحتمال في نهاية المطاف مستَند الى العلم الاجمالي فيكون المنجز في الحقيقة هو العلم الاجمالي، فيكون العلم الاجمالي منجزا لوجوب الموافقة القطعية العملية بالواسطة بعد سقوط الاصول العملية المؤمنة في اطرافه وعدم جريان بعضها دون بعضها الاخر للترجيح من غير مرجح، فعندئذ يكون المنجز هو العلم الاجمالي وهذا هو معنى أن العلم الاجمالي يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعية العملية بالواسطة لا بالمباشرة[1].
إلى هنا قد تبين أن ما ذكره السيد الاستاذ(قد) يرجع الى نقطتين:
النقطة الاولى: أن العلم الاجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية العملية مباشرة وإنما يقتضي وجوب الموافقة الاحتمالية مباشرة.
النقطة الثانية: أن تنجيز العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية العملية متوقف على تساقط الاصول المؤمنة في اطرافه بالمعارضة، وعدم جريان بعضها في بعض الاطراف دون بعضها الاخر لأنه ترجيح من غير مرجح، فعندئذ يكون العلم الاجمالي منجزا، فتنجيزه يكون بالواسطة.
ولكن للمناقشة في كِلتا النقطتين مجالا.
أما النقطة الاولى، فلأنها مبنية على ان متعلق التكليف المعلوم بالإجمال هو الجامع بحده الجامعي وهو معلوم للمكلف وواصل اليه، اما خصوصية كونه متعلقا بالفرد بحده الفردي فهي مجهولة، فالعلم بتعلق التكليف بالجامع لا يقتضي الا الإتيان بالجامع ويكفي في الإتيان بالجامع الإتيان بأحد فرديه أو افراده ولا يقتضي أكثر من ذلك، وهذا مبني على أن يكون المراد من الجامع هو الجامع بدون تقييده بخصوصية أو يكون المراد منه الجامع الذاتي وكلا الأمرين مفقود، فإن التكليف في موارد العلم الاجمالي متعلق بالجامع العنواني المقيد بخصوصية خاصة وهي خصوصية أحدهما أو أحدها.
وبكلمة أن التكليف من الاول متعلق بالفرد بحده الفردي فإن المكلف يعلم أن الوجوب في يوم الجمعة إما تعلق بصلاة الجمعة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص أو تعلق بصلاة الظهر كذلك، وكذلك يعلم اجمالا أن الوجوب إما تعلق بصلاة القصر بحدها الخاص أو بصلاة التمام كذلك أو أن النجاسة تقع في الاناء الشرقي أو انها تقع في الاناء الغربي، والمفهوم الانتزاعي متأخر عن تعلق التكليف وبعد هذا العلم الاجمالي انتزع العقل هذا المفهوم أي المفهوم الانتزاعي وهو مفهوم أحدهما أو مفهوم أحدها ينتزع هذا المفهوم في وعاء الذهن بالحمل الاولي للإشارة به الى واقع هذا المفهوم في الخارج بالحمل الشائع الصناعي التصديقي بإشارة ترددية  بين الفردين المرددين، والتردد منشأه جهل المكلف، وأما في الواقع وعلم الله فأن التكليف معلوم تعلقه بأي من الصلاتين أو النجاسة واقعة بأي من الاناءين، فمتعلق التكليف روحا وحقيقة الفرد بحده الفردي لا هذا العنوان الانتزاعي لأنه منتزع من قبل العقل باعتبار ان التكليف لا يمكن تعلقه بالفرد الخارجي مباشرة بل لا بد من ان يكون متعلقا بالمفهوم الذهني الاعتباري الذي اعتبره العقل واخترعه هذا المفهوم بالحمل الاولي للإشارة به الى واقعه الخارجي بالحمل الشائع الصناعي التصديقي بإشارة ترددية الى هذا الفرد او ذاك.
فالتكليف الواقعي بروحه وحقيقته متعلق بالفرد لا أنه متعلق بهذا المفهوم لأن مفهوم أحدهما لا قيمة له ولا يترتب عليه أي أثر وإنما اخترع العقل هذا المفهوم من جهة أن التكليف لا يمكن تعلقه بالفرد الخارجي مباشرة فمن أجل ذلك اخترع هذا المفهوم، ومن جهة أن العلم لا يمكن تعلقه بالفرد الخارجي مباشرة، فإن العلم تعلق بصورة الحكم الشرعي في عالم الذهن ومن الواضح أن صورة الحكم في عالم الذهن لا قيمة لها ولا أثر يترتب عليها بل الاثر مترتب على واقع الحكم روحا وحقيقة وهو متعلق بالفرد الخارجي بحده الفردي، غاية الامر إن كان متعينا فالعلم به تفصيلي وإن كان غير متعين فالعلم به إجمالي وهذا ناشئ من جهل المكلف والا فتعلق التكليف في الواقع معلوم إما تَعلَق بصلاة الجمعة أو بصلاة الظهر أو بصلاة القصر أو بصلاة التمام او بالإناء الشرقي وقعت النجاسة أو الاناء الغربي، في الواقع وعلم الله معلوم ولكن المكلف جاهل والتردد إنما هو بنظر المكلف من جهة جهله واختراع هذا المفهوم ( أحدهما ) للإشارة به بإشارة ترددية الى هذا الفرد او ذاك.
فالنتيجة أن ما ذكره السيد الاستاذ(قد) مبني على ان متعلق التكليف هو الجامع ولا يسري الحكم منه الى افراده في الخارج، وهذا غير تام فإن متعلق التكليف الفرد بحده الفردي والجامع مجرد مفهوم اختراعي في عالم الذهن للإشارة به الى واقعه الخارجي بإشارة ترددية الى هذا الفرد او ذاك وهو متعلق التكليف روحا وحقيقة دون هذا الجامع في وعاء الذهن فإنه لا أثر له اصلا.
فما ذكره السيد الاستاذ(قد) غير تام.


[1] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ، ج2، ص345.