الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

36/04/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: ذكرنا ان القول بالتفصيل بين حرمة المخالفة القطعية العملية وبين وجوب الموافقة القطعية العملية، وان العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية العملية ومقتضٍ بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية العملية.
وقد أستدل على ذلك بوجوه:
الوجه الاول : ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني (قد) وقد تقدم الكلام فيه وفي نقده.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(قد) وحاصله: انه لا فرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي، فإن العلم الاجمالي هو علم تفصيلي بالنسبة الى متعلقه وهو الجامع العنواني أي عنوان احدهما او احدها، فإنه بالنسبة اليه علم تفصيلي ولا فرق بينه وبين العلم التفصيلي بالنسبة الى متعلقه، فكما أن العلم التفصيلي منجز للمتعلقه ويكون تنجيزه بنحو العلة التامة، فكذلك العلم الاجمالي بالنسبة الى متعلقه لأنه علم تفصيلي ومتعلقه واصل اليه تفصيلا فيكون تنجيزه بالنسبة اليه علة تامة، أما خصوصية كونه متعلقا بالفرد فهي مجهولة وغير واصلة، فإذا علم إجمالا بنجاسة احد أناءين، الاناء الشرقي والاناء الغربي فنجاسة احدهما معلومة تفصيلا وهي واصلة كذلك وهو موضوع لحكم العقل بالتنجيز وقبح المخالفة، أما نجاسة خصوص الاناء الشرقي بحده الخاص فهي غير معلومة وغير واصلة، وكذلك نجاسة الاناء الغربي بحده الخاص غير معلومة وغير واصلة، فموضوع حكم العقل بقبح المخالفة وبالتنجيز انما هو التكليف المعلوم والواصل الى المكلف، وأما نجاسة الجامع فهي واصلة الى المكلف ومعلومة تفصيلا واما نجاسة كل من الفردين فهي غير واصلة.
فإذاً موضوع حكم العقل غير متحقق، فالعقل لا يحكم بقبح مخالفة كل من الاناءين نعم جريان اصالة الطهارة في كل من الاناءين او استصحاب بقاء الطهارة في كل منهما بما انه يستلزم المخالفة القطعية العملية، فمن اجل ذلك لا يجري كلا الاستصحابين او لا تجري اصالة الطهارة في الاناء الشرقي واصالة الطهارة في الاناء الغربي لأن جريان كلتا الاصالتين يستلزم القطع بالمخالفة العملية وهو قبيح بنظر العقل ولا يمكن الالتزام به.
فالنتيجة ان ما ذكره المحقق العراقي من ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة للتنجيز بالنسبة الى الجامع الذي هو متعلقه، لأنه معلوم تفصيلا وواصل تفصيلا وموضوع لحكم العقل بقبح المخالفة وتفويت حق الطاعة والتعدي على المولى.
هكذا ذكره(قد)[1].
والجواب عن ذلك قد ظهر مما تقدم فان العلم التفصيلي لا يكون علة تامة فضلا عن العلم الاجمالي، لأن حكم العقل بالتنجيز وبقبح المخالفة ليس حكم مطلقا بل هو حكم معلق على ثبوت حق الطاعة على العبد في المرتبة السابقة، فاذا كان حق الطاعة ثابتا على العبد في المرتبة السابقة فالعقل يحكم بقبح مخالفته وان تفويته قبيح ومن أظهر مصاديق الظلم على المولى والتعدي عليه، ولكن اذا فرضنا ان المولى  جعل الترخيص في تمام اطراف العلم الاجمالي، فمن الواضح ان هذا الترخيص لا يكون لغوا، فبطبيعة الحال  يكشف هذا الترخيص ان مصلحة الترخيص اقوى من مصلحة الواقع وان المولى رفع اليد عن حقه وهو حق الطاعة وأذن في ترك طاعته فعندئذ ترك طاعته ليس مخالفة بل هو عمل على طبق أذن المولى وليس في ترك طاعته قبح حينئذ لأنه مأذون من قبل المولى في ترك طاعته.
وعلى هذا فلا يكون حكم العقل بالقبح حكما مطلقا بل هو معلق على ثبوت حق الطاعة على العبد في المرتبة السابقة، واما جعل الترخيص في تمام أطراف العلم الاجمالي فهو كاشف عن ان المولى أذن في ترك طاعته، فينتفي حكم العقل بانتفاء موضوعه وهو امر ممكن ثبوتا.
هذا كله في مقام الثبوت.
وإلى هنا قد تبين ان جعل الترخيص في تمام أطراف العلم الاجمالي امر ممكن ثبوتا ولا يكون العلم الاجمالي علة تامة للتنجيز، كما ان العلم التفصيلي لا يكون علة تامة للتنجيز، بل هو بنحو الاقتضاء.
وأما في مقام الاثبات فهل أدلة الاحكام الظاهرية تشمل اطراف العلم الاجمالي او لا تشملها؟ فيقع الكلام في مقامين:
المقام الاول: في شمول ادلة الامارات الشرعية الترخيصية لأطراف العلم وعدم شمول ادلة الحجية لها كلا او بعضا، مشروطا او مطلقا.
المقام الثاني: في شمول ادلة حجية الاصول المؤمنة والمرخصة لأطراف العلم الاجمالي وعدم شمولها لها.
اما الكلام في المقام الاول، فلا شبهة في ان دليل حجية الامارات المرخصة والمؤمنة لا تشمل أطراف العلم الاجمالي، فاذا فرضنا ان البينة قد قامت على طهارة الاناء الشرقي فهذه البينة تدل على ان الاناء الشرقي طاهر بالمطابقة وبالالتزام تدل على ان الاناء الغربي نجس لأن الامارة مثبتاتها تكون حجة، فالبينة القائمة على طهارة الاناء الشرقي تدل على طهارته بالمطابقة وعلى نجاسة الاناء الغربي بالالتزام، فاذا فرضنا قيام بينة اخرى على طهارة الاناء الغربي فهي تدل على طهارة الاناء الغربي بالمطابقة وعلى نجاسة الاناء الشرقي بالالتزام، فتقع المعارضة بين البينتين بين المدلول المطابقي لكل منهما والمدلول الالتزامي للأخرى، فلا يمكن شمول دليل الحجية لكلتا البينتين معا لاستلزامه التناقض والتهافت، اما شمول دليل الحجية لأحداهما المعينة دون الاخرى ترجيح من غير مرجح، لأن نسبة دليل الحجية الى كلتا البينتين نسبة واحدة فالحكم بشموله لأحداهما المعينة دون الاخرى ترجيح من غير مرجح، واما شموله لأحداهما غير المعين فهو لا يمكن، لأنه ان اريد من احداهما غير المعين المفهومي فلا واقع موضوعي له الا وجوده في عالم الذهن والتصور أي هو مجرد مفهوم، ولا أثر له وان اريد من احداهما المصداقي فهو الفرد المردد وهو غير معقول وجوده في الخارج، واما شمول دليل الحجية لكل منهما مشروطا بالأخذ به او مشروطا بعدم الاخذ بالأخر او مشروطا بكذب الأخر فهذه الفروض يأتي بحثها في مبحث التعادل والترجيح.
فالنتيجة أن دليل الحجية لا يشمل الامارة في اطراف العلم الاجمالي لا كلا ولا بعضا.
واما الكلام في المقام الثاني وهو شمول دليل الحجية للأصول العملية المؤمنة والمرخصة لأطراف العلم الاجمالي.
فالمعروف والمشهور بين الاصوليين منهم مدرسة المحقق النائيني (قد)[2] أن المانع عن شمول دليل الحجية للأصول العملية المؤمنة لأطراف العلم الاجمالي ثبوتي لا اثباتي فلا يمكن شمول دليل حجية الاصول العملية المؤمنة لأطراف العلم الاجمالي جميعا ثبوتا، فلا تصل النوبة الى مقام الاثبات، فان البحث عن مقام الاثبات في طول الامكان في مقام الثبوت واما اذا لم يمكن الثبوت فلا تصل النوبة الى مقام الاثبات فلا يمكن البحث عن ان دليل حجية الاصول المؤمنة  هل يشمل اطراف العلم الاجمالي او لا؟
واما بناءً على ما ذكرنا من انه لا مانع ثبوتا من شمول دليل حجية الاصول المؤمنة للأصول المؤمنة في جميع أطراف العلم الاجمالي وهو امر ممكن، فعندئذ يقع الكلام في مقام الاثبات فهل دليل حجية الاصول العملية المؤمنة يشمل تلك الاصول في اطراف العلم الاجمالي او لا يشمل؟
فيه قولان، فذهب السيد الاستاذ(قد)[3] انه لا مانع من الشمول لأطلاق دليل حجية الاصول المؤمنة فانه بإطلاقه يشمل الاصول العملية المؤمنة في اطراف العلم الاجمالي غاية الامر ان هناك مانعا عن هذا الشمول وهو وجود المعارضة بين هذه الاصول العملية، وذهب  بعض المحققين(قد) الى انه لا اطلاق لدليل حجية الاصول العملية المؤمنة لأطراف العلم الاجمالي.
بتقريب: ان اطلاق المطلق انما يثبت ببركة مقدمات الحكمة، فاذا تمت هذه المقدمات ثبت اطلاق  المطلق، فاطلاق المطلق معلول لجريان مقدمات الحكمة ولتمامية هذه المقدمات، ومن المعلوم ان اطلاق المطلق امر عرفي وعقلائي وهو انما يثبت للمطلق اذا جرت مقدمات الحكمة بنظر العرف والعقلاء.
 ولكن في المقام ليس كذلك، فان اطلاق دليل حجية الاصول المؤمنة لأطراف العلم الاجمالي ليس عرفيا وليس عقلائيا، والوجه في ذلك ان المرتكز في الاذهان من العرف والعقلاء ان الاغراض اللزومية اذا دار امرها بين اطراف محصورة لا يرفع المولى اليد عنها وهذا الارتكاز العرفي بمثابة قرينة متصلة مانعة من انعقاد اطلاق دليل حجية الاصول العملية المؤمنة.


[1] نهاية الافكار، تقرير بحث المحقق العراقي للشيخ البروجردي، ج2، ص46.
[2] اجود التقريرات، تقرير بحث المحقق النائيني للسيد الخوئي، ج2، ص51.
[3]مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ، ج2، ص76.